فيتنام.. انتصرت في الحرب وخسرت في السلم

تُسحر القهوة ووجبة “فو” الفيتناميتان السائحين من مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك عرفت مقاهي ستاربكس ومطاعم ماكدونالدز طريقها بصورة غير مفهومة لتنتشر في مدن فيتنام المختلفة.

ونادرا ما تجد سياحا غربيين يأكلون داخل محلات ماكدونالدز أو يحتسون قهوة داخل ستاربكس، فهم يفضلون القهوة والطعام المحليين، إلا أن النخبة الفيتنامية -خاصة من صغار السن- تفضل نمط الحياة الأميركي بطعامه وقهوته ولغته.

ويسبب إقدام شباب فيتنام على كل ما هو أميركي مرارة كبيرة لدى جيل الآباء ممن خاضوا حربا ضروسا ضد الوجود الأميركي انتهت بإجبار الولايات المتحدة على الانسحاب عام 1975.

جمعت فيتنام بالولايات المتحدة خلال العقود الماضية علاقات عداء وحرب، ومع ذلك نجحت هانوي بنظام حكمها الشيوعي في تطبيع علاقاتها مع واشنطن، بل أصبحت تجمعهما علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية واسعة.

الأجيال الحالية في فيتنام تنظر نظرة مختلفة لأعداء الأمس (غيتي)

خسائر بالملايين
خسرت الولايات المتحدة في حربها على فيتنام أكثر من 58 ألف جندي، وجُرح أكثر من 150 ألفا آخرين. وعلى الجانب الفيتنامي قُتل مليونا مدني ومليون عسكري. هذا بالإضافة إلى التأثيرات المتعلقة بالاستخدام الواسع للألغام الأرضية والمواد المشعة والكيميائية التي بقيت آثارها لسنوات.

في البداية، دعمت واشنطن المجهود الحربي الفرنسي، ثم انتقلت إلى الدعم العسكري عبر أكثر من 17 ألف مستشار عسكري، وبحلول العام 1969 كان لها ما يقارب 600 ألف جندي يحاربون هناك.

وطبقا لدراسة قامت بها جامعة هارفارد، خلفت الحرب عشرة ملايين لاجئ فيتنامي ومليون أرملة و880 ألف طفل يتيم، وثلاثة ملايين عاطل، وبلغت نسبة التضخم عند انتهاء المعارك 900%.

وتعهدت واشنطن بتقديم 3.5 مليارات دولار للتعويض عن تدميرها للبنية الأساسية الفيتنامية، إضافة إلى ملياري دولار تعويضات عن استخدام مواد كيميائية أضرت بمليونيْ فيتنامي، إلا أن واشنطن أيضا قررت مقاطعة فيتنام وعدم التعامل مع نظامها الشيوعي. لكن الدولتين بدأتا خطوات تطبيع بطيئة بينهما منتصف تسعينيات القرن الماضي، ووصلت اليوم إلى علاقات قوية.

أنهت اتفاقية باريس التي وقعها الشيوعيون الفيتناميون مع واشنطن عام 1975، إحدى أشرس حروب القرن العشرين. وأخذت الولايات المتحدة عشرين عاما حتى ترفع عقوباتها ومقاطعتها التي فرضتها على فيتنام عقب انتهاء الحرب، وهو ما مثل تاريخا جديدا في علاقات الدولتين.

وانتقلت العلاقات لتصبح شراكة شاملة مرتكزة على بعد تجاري اقتصادي وآخر عسكري إستراتيجي. ومثل صعود واستمرار تضخم القوة والنفوذ والهيمنة الصينية اقتصاديا وعسكريا -خاصة في شرق وجنوب آسيا- عنصرا مساعدا، وربما دافعا لهذه الشراكة.

استطلاعات الرأي تشير إلى أن الفيتناميين ينظرون إيجابيا إلى سياسات الرئيس ترامب (غيتي)

الخطر الصيني
ويجمع واشنطن وهانوي شعور مشترك بتزايد الخطر الصيني خاصة في الجانب العسكري البحري مع تمدد بكين في بحر جنوب الصين، وهو ما يمثل خطرا مباشرا على السيادة الفيتنامية. وشهد العام 2014 تصعيدا صينيا كبيرا بوضعها منصة استخراج بترول في منطقة تعتبرها هانوي منطقة اقتصادية خاضعة لسيادتها.

وتنظر غالبية الشعب الفيتنامي إيجابيا إلى الرئيس دونالد ترامب، إذ يشير استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “بيو” للأبحاث عام 2017 إلى أن 58% من الفيتناميين لديهم درجة ثقة عالية في الرئيس الأميركي. كما كشف الاستطلاع أن 76% من الفيتناميين لهم رأي إيجابي في الولايات المتحدة، وارتفعت النسبة إلى 87% بين الشباب الفيتنامي من 18 إلى 29 عاما.

في الوقت ذاته تتعامل هانوي مع معادلة علاقاتها ببكين وواشنطن بحذر شديد، فهي لا تريد استفزاز الصين كما يرى كونغ نيغيان الباحث الفيتنامي بمركز “سايغون” للدراسات الدولية بجامعة “هو تشي مينه”، لذا تؤكد في كل المناسبات على موقفها الحيادي المعروف باللاءات الثلاث وهي: لا للتحالف العسكري، ولا للوقوف مع أي طرف يتورط في نزاعات عسكرية، ولا لإقامة قاعد عسكرية في الأراضي أو المياه الفيتنامية.

كما يجمع هانوي وواشنطن علاقات عسكرية تتطور باستمرار، وفي حدث تاريخي زارت حاملة الطائرات الأميركية كارل فينسون ميناء “دان أنغ” في مارس/آذار 2018، وهي الحاملة التي كانت تنطلق منها طائرات عسكرية لتضرب أهدافا فيتنامية أثناء الحرب التي انتهت عام 1975.
 
ومع استمرار النزاع مع الجار الصيني القوي حول الحقوق السيادية والحدود البحرية في بحر جنوب الصين، يضيف وجود علاقات لفيتنام بالولايات المتحدة المزيد من الثقة لموقف هانوي.

وتحدث عدد من المواطنين الفيتناميين للجزيرة نت بطريقة إيجابية عن ترامب حيث يرونه “زعيما قوميا يواجه الصين تجاريا، وله مواقف صلبة ضد النزاع في بحر جنوب الصين”. إلا أن تعقيدات علاقة فيتنام الخارجية تعرقل إدارة علاقتها بواشنطن. وعلى سبيل المثال تعد روسيا المصدر الأساسي لتسليح الجيش الفيتنامي، وهو ما يعرقل تطوير علاقتها العسكرية مع الولايات المتحدة.

إعلانات محلات ماكدونالد بجوار أفرع أكبر المصارف العالمية في هانوي (الجزيرة)

محادثات واسعة
كما تؤمن فيتنام بأهمية علاقتها بالجار الصيني، ورغم الخلافات حول قضايا بحر جنوب الصين، فقد حاولت الدولتان حل الخلافات بمحادثات واسعة بين الحزبين الحاكمين وبين وزراء الدفاع.

وذكر مسؤول فيتنامي سابق للجزيرة نت أن بلاده تدرك “أن الصين جارة لها وجارة قوية وتزداد قوة كل يوم، أما الولايات المتحدة فهي دولة غريبة عن المنطقة، لذا تحاول هانوي الاستفادة من اهتمام واشنطن بالمنطقة دون أن يكون ذلك سببا لتزايد الخلافات مع واشنطن”.

وقعت هانوي وواشنطن اتفاقية تجارية ثنائية عام 2000 سمحت لفيتنام بدخول أكبر سوق عالمي بعد تخفيض نسب كبيرة من التعريفات الجمركية. ثم ساهمت واشنطن في تسهيل دخول فيتنام منظمة التجارة العالمية عام 2007، وهو ما أتاح لها أن تصبح لاعبا مندمجا بصورة كبيرة في الاقتصاد العالمي. ومثلت فيتنام بديلا جيدا للاستثمارات الخارجية خاصة التصنيعية، حيث تنخفض تكلفة العمالة مقارنة مع دول مثل الصين وإندونيسيا وماليزيا، وفضلت الكثير من الشركات الأميركية الانتقال إلى فيتنام من أجل تقليل اعتمادها على الصين.

واتبعت فيتنام سياسات انفتاح اقتصادي وجذب استثمارات خارجية خلال السنوات الأخيرة، مما جعلها تحقق واحدة من أسرع معدلات النمو الاقتصادي العالمي.

ويجمع هانوي بواشنطن اليوم علاقات دافئة، وهو ما أدى إلى أن تصبح الولايات المتحدة أكبر الشركاء التجاريين لفيتنام بعدما تم رفع العقوبات الاقتصادية عنها عام 1995. وبعدما كانت هانوي مركزا ورمزا للعداء والشك لكل ما هو أميركي، أصبحت فيتنام مركزا سياحيا للأميركيين ومركز جذب استثماري وتبادل ثقافي.

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *