نزارباييف.. محطات في سيرة رئيس مستقيل

مجدي مصطفى 

من بين رؤساء دول آسيا الوسطى التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي السابق مطلع التسعينيات؛ ينفرد رئيس كزاخستان نور سلطان نزارباييف بأنه أطولهم عمرا في المنصب، الذي استقال منه طوعا وبصورة مفاجئة الثلاثاء الماضي، بعد ثلاثة عقود أمضاها رئيسا للبلاد التي لم تعرف غيره.

تحفل سيرة الرجل البالغ من العمر 79 عاما بالكثير مما يميزه عن بقية أقرانه من رؤساء آسيا الوسطى الأربعة؛ حيث تبوأ مواقع قيادية في ثمانينيات القرن الماضي قبل تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.

تولى نزارباييف رئاسة مجلس السوفيات في كزاخستان، كذلك منصب السكرتير الأول للحزب الشيوعي فيها، وكان القيادي الوحيد الذي عارض قرار تفكيك الاتحاد السوفياتي، وسعى من أجل منع ذلك، لكن مساعيه لم تنجح.

طبعة جديدة
أصبح نزارباييف أول رئيس لكزاخستان بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وأصبح نصيبه من تركة التفكك تلك أكبر الدول الإسلامية من حيث المساحة، وتاسع أكبر دول العالم، وواحدة من أغنى دول آسيا الوسطى بالنفط والغاز، ورابع أكبر دول العالم امتلاكا للترسانة النووية التي تخلى عنها طواعية لاحقا.

ومع تعزيز المنصب في الطبعة الجديدة، أعاد الرجل صياغة نفسه من قيادي شيوعي إلى رئيس مسلم “معتدل”، يمارس الشعائر الدينية وفي مقدمتها الحج، وانضمت بلاده إلى منظمة التعاون الإسلامي، واستضافت اجتماع وزراء خارجية المنظمة عام 2011.

انتهج نزارباييف سياسة خارجية دقيقة تقربه من الولايات المتحدة، ولا تبعده عن القبلة الأولى روسيا، التي صدّر لها النفط والغاز بأسعار تفضيلية، كما انضم إلى “الحرب الأميركية على الإرهاب”. 

اهتم الرجل بسياسة التكامل مع موسكو، عن طريق تأسيس الاتحاد الجمركي الذي تطور لاحقا إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بين روسيا وبيلاروسيا وكزاخستان وأرمينيا وقرغيزستان، كما تم في عهده نقل عاصمة البلاد من ألما آتا إلى أستانا.

البوابة الإسرائيلية
وحرصا منه على تعزيز الاندماج والقبول الدولي، وجد أن لزاما عليه المرور أيضا نحو تلك الغاية عبر البوابة الإسرائيلية؛ إذ بدأت العلاقات الدبلوماسية بين أستانا وتل أبيب، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تنتظر إسرائيل أكثر من أربعة أشهر حتى افتتحت سفارتها في أستانا.
 
توالت الزيارات المتبادلة، وحصل نزارباييف على تكريم إسرائيلي في أول زيارة له عام 1995، وهي جائزة “المزايا الخاصة بالشعب اليهودي”، وتلقى نزارباييف لاحقاً جائزة من الحاخام الأكبر لدولة إسرائيل لجهوده في الحوار بين الحضارات.

وأثنى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت على كزاخستان قائلا إنها “تظهر وجهاً جميلاً من الإسلام، وهي دولة معاصرة وفي تطور دائم. وهي مثال على التزاوج بين تطور اقتصادي وتنوع إثني وعرقي، ويجب على الدول الإسلامية الأخرى أن تحذو حذوها”.

وإلى جانب الاتساع المضطرد في التبادل التجاري والمشاريع الاستثمارية والتعاون في مجالي الطب والزراعة؛ تصدر الجانب العسكري اهتماما كبيرا في العلاقات بين كزاخستان وإسرائيل، التي أصبحت إحدى أهم الدول التي تزود الجيش الكزاخستاني بما يحتاج إليه من سلاح وذخيرة.

الإرث النووي
ورثت كزاخستان عن الاتحاد السوفياتي المنهار رابع أكبر ترسانة نووية في العالم، وأصبحت أول دولة إسلامية تملك سلاحاً نوويا قبل إجراء باكستان تجاربها النووية في أواخر تسعينيات القرن الماضي.

هذه التركة النووية جعلت كزاخستان رابع دولة تمتلك أضخم ترسانة نووية في العالم، ومن ثم فإن التخلي عن تلك الترسانة كان قرارا إستراتيجيا بالغ الصعوبة والتعقيد.

وفي كتابه “قلب العالم” يتحدث نزارباييف عن تلك المرحلة ويقول “كان يتنازع فيها تياران: الأول يبرر الاحتفاظ بالسلاح النووي لأنه يضع كزاخستان في صف الدول العظمى، ويشكل ضمانا للأمن، ورادعا لمطامع الخصوم في ظل الثغرات في الأسلحة التقليدية، إضافة إلى أهميته العلمية والتقنية المتطورة”.

أما التيار الثاني -وفق نزرباييف- فيدعو إلى التخلي عن السلاح النووي “لأسباب عدة منها النفقات المادية الضخمة التي كانت ستتحملها كزاخستان، إضافة إلى التبعات الجيوسياسية المعقدة في محيط آسيا المركزية ومنظومة الأمن الشامل”.

كان أحد أهم القرارات التي اتخذها نزارباييف -كأول رئيس منتخب- إغلاق موقع التجارب النووية سيميبالاتينسك، وفي مايو/أيار 1995 تم تدمير آخر رأس حربية نووية في موقع سيميبالاتينسك، وفي 29 يوليو/تموز 2000 تم تفجير النفق الأخير للتجارب النووية. وفور إغلاق موقع سيميبالاتينسك للتجارب النووية بدأت حقبة كزاخستان خالية من الأسلحة النووية.

استقالة أم ترقية 
اختار نزارباييف أن يضيف إلى سيرته الفريدة وهجا جديدا بتسجيله استقالة طوعية، وهو في المنصب، ولم يسبقه إليها أحد من رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى الخمس، التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، حيث تنتهي الرئاسة إما بوفاة الرئيس (تركمانستان وأوزبكستان) أو عن طريق الانتفاضة الشعبية، مثل قرغيزستان التي شهدت الإطاحة برئيسين حتى الآن.

نزارباييف -الذي حكم كزاخستان بيد من حديد طيلة ثلاثين سنة- مطمئن إلى لقب “أب الأمة” الذي يتمتع به ويمنحه الحصانة القضائية ودورا نافذا في حال شغور مركز الرئاسة.
 
وفي مقال بعنوان “ترقية رئيس كزاخستان”، نبهت صحيفة “كوميرسانت” الروسية إلى أن دستور البلاد يكفل لـ”الرئيس الأول” العديد من الصلاحيات حتى بعد استقالته، وينص على تنسيق المبادرات المتعلقة بأهم الاتجاهات للسياستين الداخلية والخارجية معه.

ويرى المحلل السياسي الكزاخستاني دوسيم ساتبايف أن هذه الصلاحيات تتيح لنزارباييف البقاء حاكما فعليا للبلاد حتى بعد استقالته من الرئاسة، مشيرا إلى أن قانون “الرئيس الأول” يتيح له مثل هذه الفرصة، في حين يسمح شغل منصب رئيس مجلس الأمن مدى الحياة بالتحكم في الاتجاهات الرئيسية للسياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على كافة أجهزة الدولة”.

وفور تعيينه رئيسا انتقاليا للبلاد، اقترح رئيس كزاخستان الجديد قاسم جومارت إطلاق اسم الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف على العاصمة أستانا، وهو ما تمت الموافقة عليه بالفعل وإقراره بعد ساعات.

“بروفة” وإلهام
سيناريو الاستقالة وما بعدها يراه بعض المراقبين الروس قابلا للتكرار في بلادهم مع انتهاء الولاية الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين بموجب الدستور بعد خمس سنوات، واحتمال شغله وظيفة جديدة بعد عام 2024.

وفي تقرير بموقع مركز “كارنيغي” في موسكو، اعتبر كاتبه ألكسندر باونوف أن ما يجري في أستانا هو “البروفة الرئيسية لانتقال السلطة في روسيا”، كونه يتيح للكرملين فرصة لمتابعة عملية تسليم السلطة في بلد يشبه روسيا في هيكل اقتصاده.

ورغم بُعد المسافة، ينطوي الأمر على حالة من الإلهام أو توارد الخواطر بين التعديلات الدستورية التي جرى تفصيلها خصيصا من أجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليحكم البلاد لفترة مفتوحة، وتضمن له الحصانة والزعامة حال تركه المنصب.

ومن غرائب الإلهام وتوارد الخواطر بين القاهرة وأستانا أن السيسي يعكف على بناء عاصمة جديدة على غرار نزارباييف. 

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *