مصر المخيفة.. لهذه الأسباب يهرب أغنياء مصر داخل أسوار المدن الجديدة

“احنا شعبين شعبين

شوف الأول فين والتاني فين

وآدي الخط ما بين الاتنين

بِيفوت”

(عبد الرحمن الأبنودي)

 

في السنوات التي تلت الانقلاب العسكري في مصر، وقت أن كان الجميع في مصر مُنهمكا بآلامه أو مُتابعا عن بُعد للحراك والصراع السياسي الدائر، والذي وضع البلاد كلها في حالة من القلق والتوتر، عكفت الكاتبة والمُخرجة السينمائية هالة خليل على كتابة وإنتاج فيلمها “نوارة” الذي يُعد بحسب نقاد وثيقة تاريخية عن حالة الاجتماع المصري في العقد الأخير.

 

تجري أحداث الفيلم في ربيع العام 2011، كانت مصر حينئذ تشهد تفاعلا سياسيا واجتماعيا جذريا من أسفل المجتمع لأعلاه، تبدو الثورة في الفيلم كحدث أظهر فساد النخبة الحاكمة، إلا أن ما اهتمت به هالة خليل لتقوله في الفيلم هو إن الثورة أيضا كشفت المجتمع أمام نفسه، يُظهر الفيلم عالمَيْن منفصلين حيث تنقسم القصة السينمائية بين فئتين من المصريين، فئة من سكان أحد “الكومباوندات” على أطراف القاهرة، وأخرى تعيش في أحد الأحياء القديمة في القاهرة، وخلال أحداث الفيلم نكتشف بالتدريج تناقضا حادا يصل إلى درجة الصراع في أساليب الحياة وطبيعة المصالح ومفاهيم الوطنية والانتماء بين فئتين كبيرتين، كل ما فعلته الثورة أنها أزالت الغطاء عن هذا التناقض القائم فعلا والآخذ في الاتساع مع مرور الزمن.

 

الحديث عن التفاوت الطبقي والاجتماعي حديث يطول، ولا تختص به بلد أو مجتمع بعينه، بل إن بعض المؤرخين حتى الماركسيين منهم يعتقدون أنها ظاهرة قديمة قدم الاجتماع الإنساني(1)، والتفاوت بحد ذاته ليس بالظاهرة المقلقة، إذ إنها تبدو سمة تاريخية إنسانية طبيعية، لكن الظاهرة التي باتت تستدعي القلق وتستحق التحليل هي ظاهرة التجمعات السكانية المغلقة والمعزولة الآخذة في الانتشار في العديد من البُلدان، والتي بات للمجتمع المصري -حسبما تشير الإحصائيات(2)– نصيب كبير منها.

  

تعد المؤرخة الكبيرة نيللي حنا ذات إسهام رئيسي في فهم التحولات الاجتماعية بصورتها الواسعة خلال تاريخ مصر الحديث، حيث يُعد مشروعها الأساسي هو “التأريخ للفئات الاجتماعية وبسطاء الناس خارج نطاق القرار السياسي”، توضح حنا خلال كل عملياتها التأريخية أن المجتمع المصري كغالبية مجتمعات العالم في التاريخ الحديث شهد العديد من التطورات السكانية التي انعكست بدورها على التطورات العُمرانية الحضرية التي شهدتها المُدن المصرية طوال القرون الماضية، فمع كل تطور ديموغرافي سكاني كان يُرافقه تطور بكيفية مُشابهة على مستوى العُمران وداخل بنية المدينة المصرية، مما أدى إلى تشكّل عقد اجتماعي بين الفئات التي عاشت في هذه المُدن وتقاسمتها في مواردها ومساحاتها وأسواقها في حالة مدنية تجاورت خلالها العديد من الفئات(3).

 

“هليوبوليس” حي مصر الجديدة قديما (مواقع التواصل)

كانت واحدة من أكبر الموجات التاريخية في تطوير العُمران المصري في الحقبة المعروفة بالعهد الخديوي، حيث تم تشييد مدن وأحياء كاملة على الطراز المعماري الأوروبي لأول مرة في العديد من المُدن الشمالية المصرية، لتعبّر تلك التطورات العُمرانية عن تطور سكاني ديموغرافي واسع حيث توافدت العديد من الجاليات الأوروبية لتعيش في مصر، ما يلفت النظر هنا بحسب المؤرخ والباحث عصام خفاجي(4) أن تلك التطورات العُمرانية أتت في شكل امتداد عُمراني للمدن التاريخية المصرية التي تشكّلت في العصور الإسلامية والقبطية على السواء، وهو ما يظهر بشكل واضح في مُدن القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية والعديد من مُدن وجه بحري في مصر.
 
يورد الباحث في الاقتصاد والعُمران أكرم يوسف(5) مثالا واضحا على مدينة هليوبوليس والتي تُعرف الآن بحي مصر الجديدة، فالمدينة تاريخيا تم إنشاؤها في أوائل القرن العشرين، “لم تكن في أي وقت كيانا منفصلا عن القاهرة، بل كانت امتدادا واضحا ومؤثرا في عمرانها، تقف على القدر نفسه من الأهمية والتأثير، شأنها شأن أي نطاق منه، كالقاهرة التاريخية، بمختلف عصورها، أو قاهرة الخديوي إسماعيل، يستشعر القادم إليها من أقصى جنوب المدينة أنه لا يزال داخل مدينته المسماة بالقاهرة، ولم ينفصل عنها وجدانيا أو مكانيا على الرغم من اختلافها الواضح والظاهر عن أي حي آخر من أحياء القاهرة”، موضحا أن فكرة الامتداد العُمراني كانت تعني بالأساس للمطورين العُمرانيين شبكة الطرق التي تربط الأحياء الجديدة أولا بمركز المدينة كوسط القاهرة في مثال مصر الجديدة، وأيضا على خلق حالة من سهولة الاتصال والحركة مع أجزاء المدينة الأخرى عن طريق توفير بنية تحتية وشبكات طرق ومواصلات وتخطيط عمراني تلتحم كامتداد عمراني جديد مع نسيج المدينة القائم.

 

ينطلق أكرم يوسف من مقولة نيللي حنا بأن التطور العمراني هو في جوهره انعكاس لحالة من الحراك الاجتماعي، والحراك الاجتماعي كما يوضح الباحث مصطفى عبد الظاهر(6) يعني تحولا في مواقع الطبقات والفئات الموجودة داخل المجتمع وتحولا في نصيبها من الموارد والثروة والسلطة في الفضاء الاجتماعي، مما يستدعي تشكيل عقد اجتماعي جديد يَعكس ثمار هذا الحراك الاجتماعي، يوضح أكرم أن هذه التطورات العُمرانية أتت متزامنة تعبيرا عن بروز فئات جديدة في المجتمع المصري وهي فئة الجاليات الأجنبية، حيث اندمجت تلك الفئات في الاجتماع السياسي المصري بشقّه المادي الاقتصادي والإنتاجي والصناعي، وهو ما جعل تلك المدن تحافظ على تميز نمطها المعماري والثقافي.

    

تنطلق الدعاية التسويقية الجديدة من تقسيم العالم لنصفين: عالم باهت غير صحي وغير آمن يقبع خلف أسوار “الكومباوند”، و”الكومباوند” كنقيض ذلك كله

الجزيرة

 

حيث يوضح أكرم يوسف(7) أنها كانت مدنا نابضة بالحياة، مردفا: “من ضمن العوامل التي ساعدت أيضا على نجاح مصر الجديدة، كامتداد جيد للقاهرة، أنها أخذت في الاعتبار عند إنشائها أن تحقق تنوعا في الطبيعة الاقتصادية للسكان المستهدف إقامتهم بها، فمصر الجديدة بها الفئات الثرية أصحاب رؤوس الأموال مرورا بفئة الموظفين والعاملين بالقطاع العام وانتهاء بفئة العمال وصغار الحرفيين “، فتلك الموجة من التطورات العُمرانية لم تأتِ تعبيرا عن وعي طبقي، بل عن حراك اجتماعي واسع ورغبة في الإضافة وإثراء مكونات تشكيل العقد الاجتماعي داخل المدينة المصرية.

 

جرت مياه كثيرة في النهر منذ بداية الموجة العُمرانية المعروفة مجازا بمصر الجديدة أوائل القرن العشرين، ونجحت تلك المُدن والأحياء لا في أن تكون جزءا من النسيج العُمراني والاجتماعي فحسب، بل أن تكون عنوانا وتجسيدا حيًّا لمصر الحديثة وللحداثة العُمرانية في مصر. في العقدين الأخيرين من حُكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك كانت الدولة قد بدأت بالفعل في إنشاء مدن جديدة، إلا أنه في العقد الأخير في مصر والذي شهد صراعا سياسيا كبيرا، بدأت شركات عقارية استثمارية محلية ثم دولية في بناء مُجمّعات سكنية بمواصفات خاصة على أطراف المُدن المصرية، كانت مصر قد عرفت المُجمّعات السكنية المُغلقة والمُحاطة بأسوار على الساحل الشمالي لمصر كقرى سياحية مرتفعة السعر للطبقات العليا في المجتمع الراغبين في قضاء إجازات صيفية مُميزة، إلا أن الخطوة التي تلت كانت نقل تلك المُدن المُغلقة مرتفعة الأسعار المُحاطة بأسوار وأنظمة أمنية مُحكمة إلى العُمق العُمراني المصري، ويتم تسويق تلك الفكرة مصحوبة بحملة دعاية ضخمة تحت الشعار القديم نفسه: “أهلا بيك في مصر الجديدة”(8).

 

طوال أحداث فيلم “نوارة” نجد رغبة وتخوفا واضحا من سكان “الكومباوند” من العودة والاندماج في حياة المدينة مرة أخرى، وفي ذات السياق تعاني المدينة من انهيار واضح من الخدمات الحيوية التي تقدمها الدولة كالصحة والأمن، الأمر الذي يجعل الحياة فيها مهمة شاقة تقع على عاتق الأفراد وحدهم. فحسب إحصائية وحدة تقصي المعلومات بالإيكونيمست تقبع مدينة القاهرة كواحدة من أسوأ المدن للحياة فيها، ومن هذه النقطة تحديدا تنطلق الدعاية التسويقية الجديدة فهي تقسم العالم إلى نصفين، عالم باهت غير صحي وغير آمن يقبع خلف أسوار “الكومباوند”، و”الكومباوند” كنقيض ذلك كله.

 

كتاب “مُجتمع المخاطر العالمي” لعالم الاجتماع “أولريش بيك” (مواقع التواصل)

  
في كتابه “مُجتمع المخاطر” يخبرنا عالم الاجتماع أولريش بيك أن بناء الأسوار يكون دائما هو الخطوة الأخيرة قبل قيام الحرب، ويضيف الباحث أكرم يوسف في دراسته “قاهرة الامتداد” أن ظهور “الكومباوندات” والمُجمّعات السكنية على الأطراف المُغلقة والمُحكمة أمنيا يعكس خللا كبيرا في بنية الاجتماع المصري، وهو ما يظهر جليا في الحملات الدعائية والتسويقية التي باتت تُصاحب انتشار “الكومباوندات”، حيث تظهر كأنها دعوة للهرب من المدينة التي تسود فيها حالة من الخوف وغياب الأمن والعُنف الرمزي والمادي. فالعقد الاجتماعي المعني بتنظيم كيفية وصول الخدمات والموارد إلى المواطنين الذي ترعاه الدولة في تراجع مُستمر، مما يحوّل المُدن المصرية إلى ساحة للصراع اليومي على الخدمات والموارد الأساسية التي تكفل فقط الحياة الطبيعية.

 

ولتصبح المدينة المصرية بذلك مرتبطة بالخطر لا بالأمان، حيث باتت تتحوّل بوتيرة متسارعة من كونها مأوى من الأخطار إلى مصدر رئيس للأخطار، حيث يؤكد عالم الاجتماع زيجمونت باومان(9) بأن انتشار المجمعات السكنية المُغلقة يعبر عن انهيار الثنائية القديمة بين حالة الطبيعة وحالة المدينة: “يُمكننا القول إن المجمعات السكنية المغلقة هي تعبير عن انتقال حالة الطبيعة إلى قلب المدينة، فباتت الحرب ضد انعدام الأمن وانتشار الأخطار تقع داخل المدينة كانعكاس لانهيار العقد الاجتماعي الذي من المفترض أن يَحكم المدينة”.

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *