“البَشْعة” طريقة بدو مصريين لكشف الكذابين

عبد الله المصري-القاهرة

هل تخيلت يوما أن تلعق بلسانك قضيبا من الحديد خرج لتوه من النار وتحول لونه إلى الحمرة بفعل السخونة الهائلة؟ هذا ما قد تضطر لفعله إذا كنت من سكان بعض المناطق البدوية في مصر وحامت حولك الشبهات أو حاصرتك الاتهامات!

الأمر يجمع خليطا من الإثارة وحتى الرعب، وفيما يلي بعض التفاصيل. 

داخل منزل بدوي في قرية “سرابيوم” بمحافظة الإسماعيلية شرقي القاهرة، يجلس محمود (38 عاما) برفقة خمسة آخرين بانتظار أن تكتوي ألسنتهم “بالحديد والنار”، ليُحكم بينهم في سرقة سيارة، وهو ما يُعرف بالحكم العرفي أو “البَشعة”.

صدق أو لا تصدق، ورغم أننا في القرن الحادي والعشرين فإن البعض ما زال يؤمن بطرق بدائية لتحديد المتهم في أي جريمة، فلا حاجة إلى أدلة مادية أو لشهود عيان، كل ما يحتاجه الأمر هو “الحديد والنار” لكشف المتهم، أو الفصل بين المتنازعين والمتخاصمين في جرائم كالسرقة والاحتيال والجنايات، وذلك في جلسة واحدة دون استئناف أو نقض، وهي الطريقة المنتشرة بين بدو مصر في عدة محافظات بينها الإسماعيلية والشرقية.

وتتضح ثقة البدو بهذه الطريقة في بعض الأمثال التي تجري على ألسنتهم في هذا الشأن، ومنها “ما بعد النار من معيار”.

محمود ورفاقه قرروا الذهاب إلى “البَشعة” للفصل في اتهامهم بسرقة سيارته داخل سوق مدينة المنصورة شمالي القاهرة، رغم ابتعاد المنصورة أكثر من مئتي كيلومتر والسفر نحو ثلاث ساعات، وذلك بعدما أقنعهم صاحب السيارة المسروقة بعدالة التحكيم العرفي المعروف بممارسته من بدو “سرابيوم”، ولعدم ثقته بالقضاء العادي الذي يستغرق وقتا طويلا ويستنزف أموالا طائلة، على حد قوله.

تسخين قضيب الحديد قبيل عملية “التبشيع” (مواقع التواصل) 

آلية المحاكمة العرفية
بدأت المحاكمة الخاصة بمحمود وباقي المتهمين الخمسة بعد موافقتهم على الشروط المتمثلة في تسجيل أقوالهم بخصوص القضية، ومن ثم قراءة وترتيل بعض الأدعية خلف القاضي، وفي مقدمتها الدعاء الأشهر في هذه الحالة وهو “اللهم إن كان بريئا فبرّيه (فبرّئه)”.

بعدها مباشرة يتم استخراج مقبض ملتهب من الحديد بعد تسخينه بنيران الفحم، ويضع شخص يُطلق عليه “الشيخ المُبشِّع” المقبض الناري على لسان المتهمين، ليتبين في النهاية إدانة محمود واثنين آخرين، وبراءة المتهمين الآخرين، وهو ما تم تسجيله في محضر المحاكمة العرفية.

وهنا يقول أحمد السعدي “المُبشِّع” والقاضي العرفي، إنه توارث مهنة “البشعة” عبر الزمان جدّا عن جد، فهي عادة قديمة يعود تاريخها لمئات الأعوام، لافتا إلى أنه يعمل كقاض “مبشّع” على مواجهة القضايا المختلفة مثل السرقة والزنا، وهي أغلب القضايا التي تأتي إليه، وتكون القضية بمقابل مادي يتراوح بين 300 و2000 جنيه (الدولار نحو 18 جنيها) حسب طبيعة القضية، حيث تكون قضايا الدم والسرقات الكبيرة هي الأعلى سعرا.

وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف السعدي “على المتهم قبل أن يُبشّع بوضع مقبض الحديد الملتهب على لسانه، أن يمدّ لسانه للحاضرين كي يريهم أنه لا يوجد بلسانه جرح أو عطب، وليتمكنوا من التمييز بين الحالتين قبل البشعة، وبعدها يقول للمتهم: أبشع، ومن ثم يوضع المقبض على لسان المتهم ثلاث مرات، وبعد ذلك يتمضمض المتهم بالماء على ألا يحك لسانه في أسنانه ثم يخرج لسانه”.

ويوضح أن المتهم إذا كان بريئا فإن مقبض الحديد الملتهب لن يصيب لسانه بمكروه، وإذا كان مجرما فإن المقبض سيصيب لسانه بالحروق، مضيفا “وهنا عليه أن ينصاع للحكم الصادر الذي يتفاوت بتفاوت الاتهام، حيث إن على السارق أن يعيد ما سرقه، ويكون الحكم في العادة بغرامة مالية يقدمها المتهم إلى المدعي، بعيدا عن الحبس أو العقوبات المتعارف عليها”.

اثنان من المتهمين بانتظار عملية التبشيع (مواقع التواصل)

حول القضاء العرفي
وللقضاء العرفي قوانين خاصة تختلف عن قوانين الدولة، فهو يعتمد في أحكامه على العرف والعادات والتقاليد، ويلجأ إليه بعض المصريين -مثل البدو والجماعات التي لا تصل إليها قوانين الدولة- لسرعته في إصدار الأحكام، بعكس القضاء الرسمي، و”رغم رجعيته وأخطائه التي لا يختلف عليها عاقلان”، بحسب تصريحات للخبير بالتراث والشأن البدوي المستشار سليم البلوي.

ويضيف البلوي أن “البشعة” محكمة عرفية ما زالت موجودة عند بعض القبائل في مصر، وأبرزها قبيلة “العيايدة” التي تتخذها وسيلة للفصل بين قبائل العشيرة، بعيدا عن القضاء الشرعي الإسلامي المعترف به الذي يقوم على البينة ورأي الشهود في تحديد الجريمة.

ووصف أحكام “البشعة” بأنها نصب علني و”سبوبة” (تعبير مصري دارج يعني وسيلة للكسب غير الشريف غالبا)، مضيفا أن “ألسنة المتهمين -سواء منهم المجرم أو البريء- لن تسلم من الضرر رغم تفاوته”.

وبين من يثقون بهذه الطريقة البدوية في كشف الكذب ومن يرفضونها، فهناك من يحاول تفسير الأمر بزاوية يفهمها العقل أو يؤيدها العلم الحديث، حيث يعتقد أن الأمر يتعلق بالحالة النفسية للشخص، فالصادق يكون واثقا من نفسه ومن ثم لا يجف لعابه، ولذلك لا يتأثر بسخونة القضيب الحديدي، بينما يكون الكاذب مضطربا فيجف لعابه ومن ثم يحترق لسانه.

وحسب أحد قضاة “البشعة” فإنها في حالات كثيرة وسيلة لتخويف وترهيب المجرمين، مشيرا إلى أن الكثير من المتورطين يفضلون الاعتراف قبل لحظات من خضوعهم لاختبار البشعة نظرا لإدراكهم بأن الأمر سينتهي بإضافة ألم حرق اللسان إلى فضيحة الإدانة.

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *