الإضراب بتونس.. معركة كسر عظم بين الحكومة واتحاد الشغل

خميس بن بريك-تونس

تغوص عاملة النظافة بوزارة الرياضة التونسية “مدللة”، المتلحفة بعلم تونس، بين الموظفين العموميين الذين تجمعوا بالآلاف أمام مبنى مجلس نواب الشعب بساحة باردو بالعاصمة تونس؛ تنفيذا للإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر نقابة بالبلاد.

ترتسم علامات الغضب على وجوه الموظفين الذين يصرخون بشعارات منددة برفض الحكومة -التي يقودها يوسف الشاهد– الزيادة في أجور الموظفين بالوظيفة العمومية. وبأعلى صوتها تردد مدللة معهم: “الزيادة موش مزية يا سراق الميزانية”، تلميحا إلى استيائها من النواب.

وغصت شوارع ساحة باردو المغلق بالكامل بالمحتجين الذين جاؤوا من مختلف الوزارات والإدارات والدواوين الحكومية، ومن جميع المناطق بالبلاد، في استجابة لدعوة اتحاد الشغل الذي يهدد بتصعيد تحركاته في حال استمرار تعثر المفاوضات.

معاناة قاسية
وأمام جحافل أعوان الشرطة المنتشرين وراء الحواجز الحديدية المحيطة بمبنى البرلمان التونسي، بات المشهد شبيها بالاحتجاجات التي عرفتها البلاد أواخر 2013،  إذ تكررت الشعارات نفسها المطالبة بإسقاط الحكومة بسبب تدهور الأوضاع الاجتماعية.

تقيم مدللة ببيت صغير تملكه بمنطقة برد السدرية المتاخمة للعاصمة مع ابنها الثلاثيني العاطل عن العمل، لكن أوضاعها بدأت تسوء بشكل كبير مع تفاقم غلاء الأسعار، وتراجع قيمة الدينار، واستمرار مديونيتها من البنك جراء ضعف مدخولها الذي لا يتجاوز مئتي دولار في الشهر.

تقول غاضبة “نحن نعيش ظروفا قاسية، ومع ذلك لا تأبه الحكومة لنا”، وتعدد أمثلة كثيرة عن غلاء الأسعار وتدهور طاقتها الشرائية، كما تعبر بشيء من القهر عن انقطاع أنواع من الأدوية من المستشفيات الحكومية، في وقت تعاني فيه من الكوليسترول وضغط الدم.

وغير بعيد عنها يقف شكري بن هلالة الموظف بوزارة العدل وسط الحشود الغاضبة، متلحفا بعلم تونس، مناديا بالشعارات المطالبة بزيادة الأجور في الوظيفة العمومية، ويعمل الرجل كاتب محكمة أول منذ 15 عاما، بيد أنه يقول إن أجره “لا يكفيه ليعيش بكرامة”.

لم يتجاوز الرجل الأربعين من عمره، ومع ذلك يرى مستقبله غامضا جراء معاناته اليومية في مجابهة متطلبات الحياة. ويقيم شكري بمنطقة سيدي حسين السيجومي الفقيرة بالعاصمة، ويضطر يوميا للتنقل بواسطة الحافلات الحكومية المهترئة للوصول بعناء إلى مقر عمله.

ويشعر هذا الموظف بأن الحكومة تخلت عن قطاع الموظفين العموميين الذين يبلغ عددهم أكثر من 650 ألف شخص. وفي ظل الارتفاع المتصاعد للأسعار يقول إنه أصبح يستدين شهريا دون أن يتمكن من الاستجابة لمتطلبات عائلته، المكونة من زوجته وأولاده الثلاثة الصغار.

كغيره من الموظفين الممتعضين من استمرار تدهور قوتهم، يرى شكري أن رفض الحكومة زيادة رواتب الموظفين الحكوميين لامتصاص نسبة التضخم يعكس “انبطاحا” لما أسماها إملاءات صندوق النقد الدولي، التي تشترط على الحكومة تجميد الأجور مقابل إقراضها.

وهذا الاحتقان لا يشمل فقط الموظفين العاملين؛ فحتى المتقاعدين أخذوا نصيبهم في الاحتجاج. وبين الحشود يظهر عز الدين بالأسود سائق قطاع متقاعد من الشركة التونسية للسكك الحديدية، وتبرز عليه علامات الاستياء بسبب رفض الحكومة تلبية “أدنى مطالب الموظفين”.

عواقب وخيمة
عايش هذا الرجل -الذي غزا الشيب شعره- ثلاث حقب تاريخية (منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبعد الثورة، ولكنه يقول إنه لم يشهد تدهورا للأوضاع كالتي شهدتها البلاد مع تعاقب الحكومات بعد الثورة عام 2011.

ورغم أنه يقيم مع زوجته وحدهما بعد أن تزوج أولاده الثلاثة، واستقلوا بأنفسهم، فإنه يشكو بدوره من تراجع قوته الشرائية في ظل غلاء الأسعار، ويعتبر أن ارتفاع نسبة التضخم إلى نحو 8% دون إقرار أي زيادة بأجور الموظفين “هي سياسة ممنهجة لتجويع الموظفين”.

ويقول “أصبحا نأكل القوت وننتظر الموت”، مشيرا إلى أن حياة أغلب المتقاعدين أصبحت مقتصرة فقط على الأكل والشرب وتسديد الفواتير. ويحاول الرجل منذ وقت جمع المال الكافي للقيام بعمرة مع زوجته، لكنه يؤكد أنه تخلى عن هذه الفكرة بسبب عجزه عن ادخار المال.

وفي ظل هذا الإضراب، يرى رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مسعود الرمضاني أن استمرار تعثر المفاوضات بين الحكومة واتحاد الشغل دون وجود حوار حقيقي يفضي إلى اتفاق مقبول بين الطرفين سيقود البلاد إلى عواقب وخيمة جراء عدم الاستقرار.

ويقول للجزيرة نت إنه يجد مبررا لدعوة اتحاد الشغل للإضراب العام في ظل تدهور قيمة الدينار بنسبة 40% وارتفاع الأسعار، لكنه يرى أن الحكومة مكرهة على الضغط على كتلة الأجور بسبب ارتهانها للاقتراض الخارجي وشروط صندوق النقد الذي التجأت إليه تونس.

ويضيف الرمضاني “لقد وصلنا إلى مستوى تضخم قياسي في حدود 8% نتج عنه غلاء كبير في الأسعار مقابل تدهور كبير للقوة الشرائية، لكن الحكومة مجبرة على الاقتراض الخارجي، لا سيما من صندوق النقد الدولي لتسديد نفقاتها التي يذهب جلها إلى كتلة الأجور”.

وتبلغ حجم موازنة تونس لعام 2019 نحو أربعين مليار دينار (نحو 14 مليار دولار) سيخصص منها 16.5 مليار دينار (نحو 5.5 مليارات دولار) لتسديد أجور الموظفين العام المقبل، بعدما كانت في عام 2010 لا تتجاوز 6.5 مليار دينار (نحو 2.2 مليار دولار).

ولم يعبر أي حزب سياسي بصراحة عن رفضه للإضراب العام، باعتبار أن الإضراب حق مكفول بالدستور.

لكن جزءا من المجتمع المدني عبر عن رفضه للإضراب بسبب الخسائر الاقتصادية التي تنتج عنه، وفق رأيهم.

وقال رضوان المصمودي رئيس مركز دراسات الإسلام والديمقراطية بتونس للجزيرة نت إنه يحترم حقوق الموظفين ومطالبهم، لكنه عبر عن رفضه للإضراب لأنه “يضر الاقتصاد”.

وأضاف المصمودي (وهو منخرط في حركة النهضة الداعمة للحكومة الحالية) أن الإضراب له تكلفة باهظة على الاقتصاد في ظل تفاقم عجز الموازنة 7.4%  وتراجع الإنتاج على جميع الأصعدة.

ورفض ما اعتبره تسييسا للإضراب العام بالوظيفة العمومية، في إشارة منه إلى تبني أحزاب سياسية للإضراب، على غرار حركة نداء تونس والجبهة الشعبية اليسارية (المعارضة للحكومة).

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *