“الاستقلال” المعيشي لبنات مصر.. حق أم تمرد؟

عبد الرحمن محمد-القاهرة

تعيش سلمى زكريا في سكن مع ثلاث فتيات أخريات حيث تستأجر كل منهن غرفة في شقة سكنية خصصها مالكها للمغتربات، إلا أن مرض “الوسواس القهري” وما له من متطلبات تخفى على كثيرين، ومشكلات ناجمة عن تفاصيل الحياة المشتركة مع الأخريات؛ يدفعها للتريث قبل إبداء الرضى عن تجربة استقلالها.

التجربة ليست جديدة بالنسبة لها، فقد اعتادت ذلك منذ تخرجها قبل ثمانية أعوام، إذ انتقلت من إحدى محافظات دلتا النيل إلى القاهرة للعمل بإحدى الشركات الخاصة. ولم تكن التجربة جديدة أيضا بالنسبة لأسرتها، إذ سبقتها في ذلك أختها التي تعيش بمفردها خارج مصر.

وحسب حديث سلمى زكريا (اسم الوالد مستعار) لمراسل الجزيرة نت، فإنه رغم تحفظات أفراد أسرتها فإنها لم تضطر لبذل جهد كبير لإقناعهم بالفكرة لما سبق، لكن هذه الخطوة أوجدت مساحة خلاف بينها وبين الأسرة.

تحيط سلمى (29 عاما) نفسها بمن تجد منهم تفهما لظروف معيشتها، إلا أنها بالضرورة تحتك بقطاعات أخرى من المجتمع ينظرون إليها بشكل لا يقدر احتياجاتها وخياراتها، لكنها -حسب تعليقها- لا تهتم ولا تسعى لتبرير خياراتها، وتنشغل فقط بالقيام بما تستمتع به في حياتها، محاولة قدر الإمكان دفع الأذى المجتمعي عنها.

تقول سلمى إن ما تتعرض له من مضايقات له أشكال مختلفة، أبرزها الاستغلال المادي والتحرش الجنسي، حيث ترى أن مخيلة كثيرين تعتبر الفتاة التي تعيش بمفردها سهلة المنال عن غيرها ممن يعشن مع أسرهن.

أما نورهان سعيد (31 عاما) فلم تتوقف التحفظات عند أسرتها التي اضطرت للموافقة على عيشها بمفردها بسبب احتياجها المادي، لكن التحفظات المجتمعية في بلدتها كانت أكثر تأثيرا، حيث لا تخفي عائلات البلدة رفضها لتقدم شبابها للزواج منها بدعوى أنهم “لا يعلمون ما قد تكون أحدثته خلال معيشتها بمفردها”.

خيارات أخرى
غير أن استقلال نورهان سعيد (اسم الوالد مستعار) أتاح لها خيارات أخرى قريبة إلى نفسها، بأن تنشط خيريا ومجتمعيا في مؤسسات مختلفة، وأن تتبنى ما تمليه عليها قناعاتها من مواقف سياسية، وتبذل في سبيل تلك المواقف ما يمكنها بحرية، دون أن تضطر لخوض جدالات تزيد من حدة التوتر بينها وبين أسرتها.

نورهان انتقلت إلى العاصمة بعد إنهاء دراستها في كلية التمريض لتعمل ممرضة بأحد المستشفيات الحكومية لقضاء التكليف، وتقضي يومها في عمل شاق لا يكاد يدر عليها ما يكفيها قوت يومها، ومع ذلك تحاول أن تقتطع منه ما استطاعت لتساعد في نفقات أسرتها الفقيرة المقيمة في إحدى محافظات الصعيد.

شابة مصرية تعمل في محطة وقود بالقاهرة (رويترز)

وتحاول نورهان الالتحاق بمستشفى خاص أو حتى العمل كممرضة خاصة في أيام إجازتها الأسبوعية، إلا أن ضيق الوقت وانعدام الأمان الاجتماعي ومحاولتها النأي بنفسها عن مواطن الشبهات تبتر تلك المحاولات في مهدها، مما يوفر لها هامشا من الوقت تستطيع فيه الالتحاق بأنشطة خيرية واجتماعية.

وزادت الهوة بينها وبين أسرتها بسبب خياراتها السياسية، وقد بلغت مداها خلال مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري عام 2013، حين كانت تستقبلها أسرتها بالرقص على أنغام أغان تمجد دور الانقلاب وما يقوم به تجاه معارضيه بعد عودتها من المشاركة في مظاهرات تعرضت فيها لعنف غير مسبوق من قبل قوات الأمن.

مسار الاستقلال الذي سلكته سلمى ونورهان بات مؤخرا -حسب مراقبين وباحثين اجتماعيين- خيارا مفضلا في أوساط قطاع كبير من البنات المصريات اللاتي يفضلن الخروج من بيت الأسرة ومواجهة الحياة بشكل مستقل لأسباب مختلفة، منها السعي لتحقيق طموح دراسي أو مهني أو معيشة أفضل، أو الهروب من تحكمات أسرية غير مرضية.

دوافع عدة
الباحثة الاجتماعية صفاء صلاح الدين تؤكد في سياق حديثها عن الظاهرة أن هناك الكثير من النماذج الناجحة والإيجابية التي سلكت مسار الاستقلال المعيشي من فتيات تعددت دوافعها لذلك.

وتدعو في حديثها للجزيرة نت المعنيين بدراسة هذه الظاهرة إلى عدم تجاهل الدوافع النفسية عند بعض المستقلات، إضافة إلى الدوافع الاجتماعية والاقتصادية التي تضطر معها الفتيات لاتخاذ هذا الخيار، لافتة إلى ضرورة استهداف تغير نظرة المجتمع لهذه الفئة، التي تضعها في تصنيفات سلبية.

عبد الله: لا نستطيع دعم البقاء في أسرة مهترئة ومفككة، ولا دعم الخروج إلى مجتمع لا حقوق فيه للفرد ولا احترام لخصوصياته (الجزيرة)

من جهته يرى أستاذ الطب النفسي والخبير الاجتماعي أحمد عبد الله أن هذه الشريحة من الفتيات لديها دوافعها وأسبابها الحقيقية للجوء إلى هذا الخيار، لكنها بخروجها من الأسرة كالمستجير من الرمضاء بالنار، حيث لا سند قيميا أو أخلاقيا لدى المجتمع يدعم هذا الخيار.

وفي حديثه للجزيرة نت يقول عبد الله إنه لا يستطيع دعم البقاء في أسرة باتت مهترئة ومفككة وفاشلة في القيام بدورها تجاه أفرادها، كما لا يستطيع دعم الخروج إلى مجتمع واقعه سيئ لا حقوق فيه للفرد ولا احترام لخصوصياته، لافتا إلى أن الحل في معالجة واقع الأسرة والمجتمع الذي أوصل إلى هذه النتيجة.

بدورها تشير الخبيرة النفسية والاجتماعية سحر طلعت إلى أن المجتمعات العربية باتت تواجه هزات اجتماعية عنيفة تحول دون التعاطي معها بما كان متبعا في العهود الماضية، وترى أن الفتاة باتت مضطرة للاعتماد على نفسها وأن تختبر حياة الاستقلال وتتمكن من أدواتها.

وتبرر سحر ذلك في حديثها للجزيرة نت بأن الأمر ضروري لمستلزمات الحياة المستقبلية، فالزوج مستقبلا بحاجة إلى السند إن تزوجت، وهي بحاجة إلى القدرة على مواجهة ضغوط الحياة إن ترملت أو تطلقت أو لم توفق للزواج، مشددة على ضرورة أن يتفهم الأهل والمحيط المجتمعي ذلك.

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *