هدم قلب القاهرة.. اقتلاع وسكتة معيشية لسكان بسطاء
|عبد الكريم سليم-القاهرة
ففي شارع ضيق يمر المرء فيه بجانبه بالكاد وصولا إلى منزل قديم صار أطلالاً حيث “لعب الأبناء صغاراً وكبروا، وانحنى ظهر الزوج من أعباء الحياة، لكنها كانت حياة جميلة”، تتذكرها أم أحمد بحنين، قبل أن تنقلب حياتها رأس على عقب، فيختطف الموت زوجها، وتنتزع الحكومة منزلها.
وتقوم السلطات المصرية بتهجير بعض التجمعات وسط القاهرة لإفساح المجال أمام مشاريع تجارية وسياحية تقول السلطات إنها ستعزز الاقتصاد وتجذب الاستثمارات.
تعويض هزيل
حصلت الأرملة المُرَّحلة على مئة ألف جنيه (5500 دولار) تعويضا كباقي أبناء المنطقة الذين ذهبوا -خلافا لها- إلى منطقة الأسمرات الجديدة في المقطم، وترى أم أحمد أن “المبلغ حلم عزيز لمئات السكان الذين لا يجدون قوت يومهم، ولكنها ستتبخر في نفقات وإيجارات المناطق التي انتقلوا إليها”.
تعمل أم أحمد -وهو لقبها المتداول بين جيرانها والذي فضلت استخدامه في حديثها للجزيرة نت- سكرتيرة بمكتب محام بمنطقة بولاق المجاورة لماسبيرو، وتعلّم أبناءها في مدرسة حكومية بالمنطقة، “لذا فهي مسألة حياة، وكان من المستحيل الذهاب لمنطقة الأسمرات النائية شرق القاهرة”.
تصف الأرملة مسكنها القديم بأنه كان مجرد غرفة واحدة وحمام مشترك مع سكان آخرين، وتقول “كان الأمر محرجا جداً لامرأة منتقبة مثلي، ولكنه كان أفضل المتاح”.
وتعيش أم أحمد الآن رفقة ابنيها مع والديها في شقة ضيقة، وجميعهم يخشون أن يتكرر سيناريو المثلث في الضفة الأخرى ببولاق أبو العلا.
جانب من أعمال هدم مساكن في منطقة ماسبيرو لإتاحة المجال لإقامة مشاريع تجارية وسياحية (الجزيرة) |
مقاومة الجرافات
أما صلاح موسى فوقف أمام الجرافات مقاوما الهدم، رافضا كل العروض بترك مسكنه ومتجره المستأجر. وقد ارتدى صلاح سترة مكتوبا عليها “ضد الإرهاب”، وُزّعت عليه وآخرين، تمييزا لهم بوصفهم لجانا شعبية تحمي المنطقة من مظاهرات مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، ووقف بها أمام الجرافات ليذكر الجميع أنه “دافع وسيدافع عن المنطقة”.
وبسبب سوء تعامل الشرطة معه، أذعن صلاح ـوهو بائع ملابس- وغادر المسكن والمتجر، وأخذ مكرها مبلغ التعويض ليستأجر آخر بمبالغ مضاعفة على الجانب المقابل من شارع 26 يوليو، ويقول صلاح إن “الزبائن يجيئون إلي خصيصا لتوسط المنطقة للعاصمة، واقتلاعي منها يعني موتي”.
وقد عوضت الحكومة المصرية أصحاب الأنشطة الذين غادروها إلى منطقة الأسمرات بمعاش شهري قدره 400 جنيه (نحو 20 دولاراً)، وهو ما لا يكفي بتقدير صلاح لمعيشة فرد واحد.
ويعتقد سكان ظلوا قريبا بالمنطقة أن واقعة الانفجار بجوار القنصلية الإيطالية المجاورة لمثلث ماسبيرو قبل ثلاثة أعوام كانت مفتعلة لإيجاد ذريعة لإخلاء المنطقة.
كما يتداولون روايات مريرة لجيرانهم المنتقلين إلى حي الأسمرات، الذي يخلو من الخدمات والأنشطة الاقتصادية وتندر المواصلات منه وإليه.
الوراق والكيت كات
وكانت جزيرة الوراق بوسط النيل تسير العام الماضي إلى المصير نفسه الذي سار إليه مثلث ماسبيرو لولا مقاومة الأهالي، فاضطرت الحكومة إلى إرجاء الأمر، وتداول نشطاء صورا لمخططات عمرانية تخص شركة إماراتية تسعى لتحويل جزيرة الوراق إلى مركز تجاري عالمي.
ولاحظ سكان قريبون لمنطقة الكيت كات شمال الجيزة أن صف العمارات المطل على النيل يخلو تدريجيا من ساكنيه، ويسود اعتقاد بوجود مستثمرين يريدون إخلاء المنطقة كما حدث لمثلث ماسبيرو.
ويرى أستاذ التمويل والاقتصاد أشرف دوابة أن هدم مناطق وسط القاهرة مرتبط بأبعاد اقتصادية نفعية للكبار، وهو ما يتضح من طبيعة المستفيدين، ويضيف دوابة “هي في الواقع تدخل في صفقات الفساد والمصالح المستشرية”، مشيرا إلى أن المناطق المعنية بالهدم مناطق إستراتيجية وربحيتها عالية جدا.
بالمقابل، قال المدير التنفيذي لوحدة تطوير العشوائيات بالقاهرة خليل شعت في تصريحات صحفية إنه تم الانتهاء من تسوية معظم حالات قاطني المنطقة.
وقد طرحت محافظة القاهرة ثلاثة خيارات أمام سكان المنطقة، إما التعويض النقدي، وإما التسكين في الأسمرات، وإما الرجوع بعد تطوير المنطقة. ويبقى قلب القاهرة بانتظار سكانه الأصليين ليعيد إليها التنوع الطبقي الذي اعتادته طويلا، والذي تجرفه الآن جرافات.
مقررة أممية
ووجدت معاناة سكان مناطق الهدم صداها لدى الأمم المتحدة، إذ قالت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالحق في السكن اللائق ليلاني فرحة أثناء زيارة نادرة لمصر الأربعاء الماضي إن المصريين الذين يعيشون بمناطق مخصصة لمشاريع التنمية الحضرية “يجب أن يتسنى لهم الحق في البقاء بمناطقهم”.
وعبرت المقررة الأممية في تصريحات صحفية عن قلقها لغياب تفاعل حقيقي مع السكان لتحديد مستقبلهم، مشيرة إلى أن “الناس ينتقلون لمناطق الفرص الاقتصادية فيها قليلة، كما أن حي الأسمرات بدا بالفعل وكأنه حي فقير محتمل”.
المصدر : الجزيرة