بوتفليقة.. من دبلوماسي لامع إلى تمثال وعبء ثقيل
|أعلن عبد العزيز بوتفليقة -الوجه المعروف منذ أيام استقلال الجزائر ورئيس البلاد منذ العام 1999، الذي تحول إلى شبح يرمز إلى السلطة المتصلبة- أمس الثلاثاء تنحيه عن الرئاسة بعد ستة أسابيع من المظاهرات الضخمة، ولكنه مع ذلك سيبقى شخصية ساهمت لمدة ستين سنة في صنع تاريخ الجزائر.
بهذه الأسطر القليلة، افتتحت صحيفة “لوتان” السويسرية مقالا طويلا خصصته لرحلة الرئيس الجزائري المستقيل، منذ بداية مسيرته السياسية قبيل الاستقلال إلى سقوطه تحت ضغط المظاهرات في الشارع الجزائري.
وقالت الصحيفة إن بوتفليقة كان لديه حلم بأن يموت في السلطة كصديقه ومعلمه الرئيس السابق هواري بومدين، وبالسقوط على خشبة المسرح مثل الكاتب الفرنسي الشهير موليير، لأن هذا النوع من المجد يلائم الرجل الذي كان دبلوماسيا في سنوات مجد الجزائر، قبل أن يصبح الرئيس السابع، ثم جسدا وعبئا ثقيلا في السنوات الأخيرة مع تدهور حالته الصحية.
بعد ستة أسابيع من الاحتجاجات الشعبية، أعلنت الرئاسة الجزائرية أخيرا أن بوتفليقة سيتنحى عن منصبه في موعد أقصاه 28 أبريل/نيسان الجاري، الموعد الرسمي لنهاية ولايته الرابعة، ولكنه عجّل بالاستقالة، مما سيضطر الدولة إلى إجراء انتخابات في غضون 90 يوما كأجل أقصى، يخلف الرئيس المتنحي فيها رئيسُ مجلس الأمة عبد القادر بن صالح (77 عاما).
بوتفليقة في حملته الانتخابية يوم 12 أبريل/نيسان 1999 (الجزيرة) |
المهمة الأولى
ومن بداية حياة بوتفليقة انطلقت الصحيفة لترسم مساره عبر الأحداث مذ كان يعيش مع والديه في مدينة وجدة المغربية حيث ولد ودرس وكان طالبا جيدا في المدرسة الثانوية يجيد اللغة الفرنسية ويلعب كظهير أيسر في فريق لكرة القدم وعضو في فرقة المدرسة، قبل أن ينضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني في مايو/أيار 1956.
كان بوتفليقة المولود يوم 2 مارس/آذار 1937 آخر ممثل لجيل من ثوار التحرير، قادم من وجدة التي أعطت اسمها “زمرة وجدة” لمجموعة من ضباط جبهة التحرير الوطني هيمنوا على الحياة السياسية العسكرية الجزائرية لسنوات عديدة.
في وجدة، أصبح بوتفليقة صديقا لهواري بومدين الذي يكبره بسنتين، وحينها كان بومدين الذي تلقى تدريبات عسكرية يشارك بالفعل في الكفاح السري ضد الاحتلال الفرنسي، وقد استقر في وجدة باعتباره “قائد قيادة العمليات الغربية”، قبل أن يصبح قائد “جيش الحدود” الذي يقاتل قوات الاحتلال من الدول المجاورة.
زمرة وجدة
داخل جبهة التحرير الوطني، تم تعيين بوتفليقة من قبل معلمه “مراقب الولاية الخامسة” (غرب الجزائر) قبل إرساله إلى شمال مالي عام 1960 لتأمين الأسلحة والمقاتلين، قبل أن يتم قبوله في الدائرة الأولى مع بومدين وعبد الحفيظ بوسوف وآخرين من زمرة وجدة.
في وجدة، أصبح بوتفليقة صديقا لهواري بومدين الذي يكبره بسنتين |
وفي 3 يوليو/تموز 1963 أصبحت الجزائر أخيرا بلدا حرا، بعد 132 عاما من الاحتلال الفرنسي، وقرابة ثماني سنوات من الحرب القذرة التي خلفت أكثر من 1.5 مليون شهيد.
وقبيل الاستقلال، عهد رئيس جيش الحدود بأول مهمة “دبلوماسية” لبوتفليقة، وهي الذهاب تحت الأرض إلى فرنسا لمقابلة قادة جبهة التحرير الوطني التاريخيين الذين وُضعوا تحت الإقامة الجبرية في قلعة هناك لضمان الدعم السياسي لبومدين في حالة استلام السلطة عقب رحيل الفرنسيين، وقد حصل بالفعل على دعم أحمد بن بلة بعد رفض كل من محمد بوضياف وحسين آيت أحمد.
سنوات المجد
بعد مفاوضات وأحداث الاستقلال التي لم تسلم من مناوشات داخلية دامية، تم تعيين بن بلة رئيسا للحكومة وبومدين وزيرا للدفاع، وأصبح الرائد بوتفليقة -الذي عاد إلى الحياة المدنية- وزيرا للشباب والرياضة، قبل أن ينتخب نائبا لتلمسان ويصبح وزيرا للخارجية في سن السادسة والعشرين.
وفي الخارج، أصبح بوتفليقة وجه الكفاح المظفر ضد الاستعمار، ومنظم الزيارة للجزائر التي لقبت “كعبة الثوار”، وأصبح الناطق بلسان العالم الثالث، إلى حد أنه حجب بن بلة الذي قرر عام 1965 إقالته لاستعادة السيطرة على الشؤون الخارجية، ولكن بومدين حماه واستولى على السلطة إثر تلك الأزمة.
شارك بوتفليقة في الانقلاب على بن بلة واحتفظ بمنصبه وزيرا للخارجية، في حين تولى بومدين منصب رئيس الدولة، وبذلك سحقت “زمرة وجدة” جميع الفصائل الأخرى التي ولدت من حرب التحرير، كما تقول الصحيفة.
وفي الوقت الذي يشن فيه بومدين في الداخل حربا لا هوادة فيها على أنصار بن بلة والمعارضين اليساريين، يلمع نجم بوتفليقة بين البعثات الدبلوماسية ويجلس في الفنادق الراقية ويلبس الأزياء الفاخرة لاستقبال الدبلوماسيين، ويتردد على الثوار العظام في مناكب الأرض ويدخن السيجار، حسب الصحيفة السويسرية.
الشخصية المدهشة
وفي عام 1973، كان بوتفليقة أول وزير خارجية يتم استقباله في زيارة رسمية إلى فرنسا لمراجعة اتفاقيات إيفيان وتأميم شركات النفط الفرنسية، واكتشفت فيه الخارجية الفرنسية وقتها وزيرا رائعا يعرف ملفاته جيدا، ووصفه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان “بالشخصية المدهشة”.
وقد توج بوتفليقة مساره على رأس الدبلوماسية الجزائرية برئاسة الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، حيث استقبل في نيويورك رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي جاء ليلقي خطابا تاريخيا، باعتباره رئيس دولة.
واستطاعت الدبلوماسية الجزائرية بقيادته استبعاد جنوب أفريقيا العنصرية من الأمم المتحدة، كما حقق بمفاوضاته تحرير جميع ركاب طائرة “دي.سي9” التي اختطفها الفنزويلي كارلوس في ديسمبر/كانون الأول 1975.
وحسب الصحيفة، ينتهي الفصل الأول من حياة بوتفليقة يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 1978 بعد وفاة صديقه هواري بومدين، الذي لا يوجد من هو أولى منه بتأبينه ولا بخلافته كما كان يرى، ولكن الجيش اختار العقيد الشاذلي بن جديد، ليتخلص من رجال أقوياء من “زمرة وجدة” التي أصبحت عبئا ثقيلا.
إحباط شديد
وقالت “لوتان” إن بوتفليقة أصيب بإحباط شديد بعد عزله رسميا من الحكومة في يناير/كانون الثاني 1981، ثم حكمت عليه محكمة الحسابات المنشأة حديثا بسداد 60 مليون فرنك فرنسي آنذاك، قيل إنه اختلسها من حساب للخارجية الجزائرية، وبعدها علقت عضويته في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، فاختار المنفى.
بقي بوتفليقة يجول بين دول الخليج حيث كان مستشارا لرئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وبين باريس وجنيف حيث يعالج من مشاكل في الكلى، ولكنه مع ذلك ظل على صلة بجيل جديد من الضباط، بينهم رئيس دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات الجزائرية) الجنرال محمد مدين الملقب “توفيق”.
وبعد سبع سنوات، يعود بوتفليقة إلى المنزل قبل أن تبدأ الاضطرابات الاجتماعية في الجزائر عام 1988، حيث تم قمع المظاهرات بعنف، قبل إعلان حالة الطوارئ وصياغة دستور جديد يشرع التعددية الحزبية.
لكن الجيش الذي شعر بالرعب من انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات عام 1991، عطل العملية الانتخابية فجأة، مما جعل الجزائر تغرق في حرب أهلية فظيعة سميت “العشرية السوداء”.
الأعمال الكبيرة
تم الاتصال ببوتفليقة لأول مرة من قبل الضباط عام 1994 ليصبح رئيسا للجمهورية، ولكنه رفض ذلك متعللا بأنه لم يتلق ضمانات كافية، لشعوره بأن الجيش يسعى لفرض حكم مدني مع الاستمرار في شن حربه بشكل مفرط، ثم وافق بعد خمس سنوات، ليخرج من تقاعده.
وانتخب بوتفليقة رئيسا للجمهورية بعد أن ترشح بوصفه “مستقلا”، مع أنه في الحقيقة -كما تقول الصحيفة- كان المرشح الوحيد للجيش يوم 15 أبريل/نيسان 1999 بحصوله على 73.8% من الأصوات.
جاء بوتفليقة بوعده الكبير في وثيقة “الوئام المدني” ليبعث الأمل في العودة إلى السلام خلال ولايته الأولى. وينص قانون الوئام المدني على عفو جزئي عن المسلحين ومن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وشيئا فشيئا تهدأ الساحة ويستتب الأمن بعد إطلاق سراح آلاف السجناء.
من الناحية الاقتصادية، استفاد بوتفليقة عام 1999 من ارتفاع أسعار النفط، مما سمح له بإطلاق سياسة بناء كبرى، شهد خلالها قطاع الإسكان طفرة غير مسبوقة، وامتدت الطرق السريعة بين الشرق والغرب، وتغنى الجزائريون بأن “بوتف” كما يسمون الرئيس “يريد إعادة الجزائر للعمل”.
متلازمة بينوشيه
ومع ذلك، تقول الصحيفة إن سلطة بوتفليقة اهتزت إثر قمع أعمال الشغب التي وقعت في منطقة القبائل بين عامي 2001 و2002، قبل أن يتنازل لقادة الحركة، ويتم انتخابه بسهولة عام 2004، حيث حصل على 85% من الأصوات ضد رئيس وزرائه السابق علي بن فليس.
وتمكن الرئيس الجزائري من تحييد الإسلاميين كما تقول الصحيفة، ولكنه الآن لم يحرر نفسه من قبضة الجيش، خاصة قادة انقلاب يناير/كانون الثاني 1992 الذين يعانون من “متلازمة بينوشيه”، إذ إنهم مرعوبون من فكرة الحكم عليهم وإدانتهم على انتهاكاتهم التي ارتكبت خلال العشرية السوداء، وفي نفس الوقت يرون أن السلام قد عاد.
وقد لعب بوتفليقة على هذا الخوف، لأنه طالما بقي في السلطة فهو يضمن لهم الإفلات من العقاب، ولكنه في نفس الوقت عمل على اتفاق يسمح له بالتخفيف تدريجيا من قبضة الجيش وإدارة الاستخبارات والأمن، فأقال بعض كبار الضباط، كما ذكرت الصحيفة.
السلام والمصالحة
في عام 2009، مدد بوتفليقة “وئامه المدني” من خلال “ميثاق السلام والمصالحة الوطنية” الذي ينص على تقديم تعويضات لعائلات المفقودين والعفو عن أفراد الجماعات المسلحة غير المشاركين في المذابح والاغتصاب والهجمات. كما ينص على عفو كامل لأفراد قوات الأمن المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من بين تدابير أخرى. وقد حظي بشعبية على إثر ذلك بنسبة 97.36% من الأصوات.
ومع ذلك، فإن صورته كمصلح كبير بدأت تتبدد -حسب الصحيفة- لأن هذه القوانين المتعاقبة سمحت بإعادة تدوير المجرمين المشهورين، وكأن العدالة هي المنسي الكبير في وثيقة الوفاق المدني، حيث يتحول العفو إلى فقدان للذاكرة.
وعندها لم يعد بوتفليقة منقذا كما كان عام 1999، فالمشاريع الضخمة تتعثر، والجزائر تصبح هي من بين أكثر البلدان فسادا في العالم، والحياة السياسية لا تزال مغلقة.
بداية النهاية
في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، نقل بوتفليقة إلى مستشفى “فال دوغراس” في باريس بشكل عاجل، وقال بيان رئاسي إنه أصيب بقرحة نزفية في المعدة، لكن الرئيس لم يظهر من جديد، مما أثار أشد الشائعات جنونا، فهل هو ميت؟ وهل الجيش يرتب لخلافته؟ ولكن بوتفليقة يعود أخيرا إلى الجزائر، ولكن بعد التنبيه إلى بداية تدهور طويل لحالته الصحية.
ورغم تدهور حالة بوتفليقة الصحية، أجري تعديل للدستور لإزالة حد الولايتين الممنوح للرئيس، وبعدها أعيد انتخابه بحصوله على 90.2% من الأصوات، إلا أن المعارضة الجادة لم تشارك في هذه الانتخابات واعتبرتها حفلة تنكرية، حسب الصحيفة.
في عام 2011، اجتاحت موجة الربيع العربي المنطقة وسقط جراءها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك والزعيم الليبي معمر القذافي، غير أن ذاكرة الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي أطفأت الحماس الثوري في الجزائر، وزاد عليها بوتفليقة بأن فتح خزائنه فزاد الأجور وأنشأ نظاما جديدا لدعم الشباب الذين يرغبون في بدء أعمالهم، حسب الصحيفة.
في 27 أبريل/نيسان 2013 نقل الرئيس الجزائري مرة أخرى إلى مستشفى “فال دوغراس” بعد تعرضه لجلطة دماغية، وعاد بعد ثلاثة أشهر على كرسي متحرك، وتساءل الناس: هل ما يزال الرئيس في وضع يسمح له بقيادة البلاد؟
مجرد دمية
بعدها أصبح ظهور الرئيس نادرا، وبدأت الشائعات تنتشر حول أجهزة الأمن التي تتلاعب به وعن بوتفليقة الذي لم يعد أكثر من مجرد “دمية” في يد الجيش، وبالتالي تحول الاستقرار إلى جمود، خاصة أن بوتفليقة صنع السلام ولكنه لم يصنع الديمقراطية، كما تقول الصحيفة.
وفي مفاجأة للجميع، ترشح “طريح الفراش” هذا لولاية رابعة عام 2014، وانتخب مجددا بنسبة 82% من الأصوات، بعدما استبعد النظام أي معارضة جادة، وبقي المجتمع الدولي يفرك أعينه مشدوها، والشعب الجزائري بين مشفق ومتردد وشاعر بالعار من مشهد هذه المومياء على رأس الدولة، كما ترى الصحيفة.
ورغم مرض بوتفليقة وتقدمه في السن، يعلن أنصاره رسميا ترشحه لولاية خامسة في تمثيلية غبية يمثل فيها بصورة فوتوغرافية، كما وصفت الصحيفة المشهد الذي اعتبره الجزائريون احتقارا لهم، ونزل مئات الآلاف من الناس فجأة إلى شوارع البلاد ليعلنوا ضجرهم.
وختمت الصحيفة بأن الدبلوماسي العجوز -بعد حرمانه من دعم الجيش- لم يبق منه سوى تمثال لمجد الجزائر الغابر في السبعينيات، وعبء يسد أفق التغيير، قبل أن يسقط أخيرا تحت وطأة ضغط المظاهرات الشعبية.
المصدر : الصحافة السويسرية