أطفال السودان.. عندما يغتال البارود البراءة

أحمد فضل-الخرطوم

عند سفح الجبل “الأسود” خيم الحزن على قرية الفتح 3 (أقصى شمال غرب ولاية الخرطوم)، حيث قضت قذيفة لمدفع ثقيل على ثمانية أطفال، ظنوها كنزا فكتبت آخر لحظاتهم في الحياة.

ومن عند الجبل المطل على بيوت القرية كحارس مهيب حملوها، حتى دخلوا بها غرفة بسيطة بأحد منازلهم؛ علها تجلب لهم بعض الدريهمات، لكنها حملت إليهم الموت دون أن تلامس آذانهم مرة أخرى نداءات تاجر “الخردة”.

ولقي ثمانية أطفال -أربعة منهم أشقاء لعائلتين- حتفهم بانفجار قنبلة في منطقة الفتح بمدينة أم درمان السبت الماضي، وسُمع الانفجار على بعد كيلومترين.

الغرفة التي دوى فيها انفجار القذيفة لم تحتمل جدرانها المشيدة من الطين قوة الشظايا فتهاوت بعض جوانبها، كما فتحت قوة الانفجار كوة كبيرة في جانب آخر، وما تبقى من الجدران لم يسلم من شظايا اخترقتها كما اخترقت أجساد الصغار، وعلى السقف والأرض ما زالت أجزاء صغيرة من الرفات عالقة.

ثلاثة أسرّة من الحديد كان يجلس عليها الأطفال، وهم يحاولون تفكيك جسم معدني بيضاوي الشكل في مؤخرته حلقة رفيعة من النحاس، تحولت بدورها إلى كومة من الخردة مليئة بالثقوب التي طالت حتى باب المنزل في الخارج.

والدا طفلين من الضحايا في غرفة الموت (الجزيرة)

يوم الكارثة
كان نهار السبت قاسيا على أهل الفتح 3، وهم يوسدون ثمانية من فلذات أكبادهم مقبرة حديثة كحداثة المكان الذي انتقلوا إليه قبل سنوات، دون أن تمتد إليهم شبكات المياه والكهرباء.

حسن عبد الله آدم تبدو معاناته مضاعفة لفقدانه اثنين من أبنائه، فارس 12 سنة وياسين عشر سنوات، يقول للجزيرة نت إنه يعمل حمالا في السوق الشعبي بأم درمان مقابل ما بين مئتي وثلاثمئة جنيه يوميا (نحو 4.2 و6.3 دولارات”.

ويتابع باكيا إن مرافقين حاولوا منعه من رؤية ابنيه في المشرحة، لكنه أصر قائلا “لقد تركتهم نائمين.. أنا لا أراهم يلعبون إلا يوم الجمعة لأنني أعمل يوميا من الصباح وحتى المساء”.

ويرمي آدم باللائمة على تجار الخردة الذين يجوبون المنطقة صباح مساء بحثا عن بائعين، مما حفز الصبية على البحث بجنون عن الحديد والنحاس والألمنيوم في أنحاء الجبل الذي كان في السابق يستخدمه الجيش في التدريب على الرماية (دروة).

وعلى امتداد الطريق الدائري شمال أم درمان وحتى مخططات أحياء الفتح تتناثر مناطق عسكرية، حيث إن الجيش سبق السكان إلى هذه المناطق، لكن ما أفسد خلوته في تلك الأنحاء البعيدة التوسع المضطرد للعاصمة والهجرة الكثيفة إليها من بقية الولايات.

الضحيتان فارس وياسين يتوسطان أخاهما الأكبر (وسائل التواصل)

أكوام الحزن
ومثل آدم تعاني ثريا خميس من حزن مضاعف، فقد حولت القذيفة ابنيها تامر وعطا المنان أبكر إلى أشلاء، وكانت أول الداخلين إلى غرفة الجحيم، بحسب ما ترويه للجزيرة نت.

تقول ثريا “عندما دخلت وجدت بعض الأطفال كومة لحم، لكن ابني تامر وآخر يدعى محمد حسن كانا حيين.. تحدثت معهم وسألت تامر عن أخيه فأشار إلى جسد ممزق تحت السرير وإلى يساره طفل اسمه نادر.. حملت تامر ومحمد وامتلأ ثوبي بالدم إلى المستشفى وليس على لساني سوى الشهادة”.

وتروي ثريا أنها وجدت فارس وياسين ميتين وهما متماسكين، وفي إحدى الأركان كان صبي يدعى عزت مستلقيا وهو مخضب بالدماء، وآخر يدعى مصطفى كان مكوّما على أحد الأسرّة.

أما زهرة عبد الرحمن صاحبت المنزل الذي شهد فصول المأساة، فقد كانت خارجه لحظة الحادث، وتقول والدموع تتسرب من عينيها إنها لم تتمكن من رؤية ابنها نادر (12 سنة) بعد أن منعها الجيران خشية انهيارها من شدة ما ألم بجسده الغض.

ووالد “نادر” محمد إسحاق -فشأنه شأن زوجته، فقد كان مسافرا للعمل في بورتسودان -لا يكاد يتمالك نفسه وهو يقول إنه لا يملك صورة لصغيره ليتذكره بها.

وأضاف أنه ما زال ينظف المكان من أشلاء الأطفال المتناثرة، وحتى يوم الأحد وجد قدما دفنتها الأتربة من شدة الانفجار، وزاد “هذا المنزل ملكي لكن لا اعتقد أنني أستطيع البقاء فيه بعد الآن”.

يوم السبت كان يوما صعبا على أهل الضحايا (الجزيرة نت)

خردة وحلوى
ويروي نور الدين إبراهيم للجزيرة نت كيف فارق ابنه عزت (10 سنوات) صباح السبت متوجها إلى عمله في حي النصر (جنوبي العاصمة الخرطوم)، وقلبه يحدثه أن أمرا ما سيقع، ليتصل عند الساعة العاشرة ليطمئن، ثم أتاه خبر الانفجار ظهرا.

ويقول إنه وصل ليجد عزت مغطى بالشاش، فكشف الغطاء ليجد جرحا غائرا على بطنه، بينما كان أحد الضحايا مقسوما نصفين، والآخر رأسه ويداه مفصولة عن جسده.

ويتابع “كان منظرا بشعا.. لقد ماتوا بلا ثمن، إنهم يبيعون الكيلوجرام من الخردة بما بين 10 و15 جنيها (أقل من نصف دولار) من أجل شراء قطعة حلوى أو أي شيء صغير يشتهونه”.

ومن ألطاف الأقدار أن شريكا تاسعا للأطفال نجا من الموت المحتم بعد أن أبعده الضحايا وأغلقوا باب الغرفة عليهم ليختلوا بكنزهم الملعون.

وزير الداخلية بشارة جمعة يعزي ذوي الضحايا (المركز الإعلامي للشرطة السودانية)

وعود الحكومة
ويقول والد الشقيقين فارس وياسين إن أهل المنطقة طالبوا وزير الداخلية ووالي الخرطوم ومدير الشرطة أثناء زيارتهم القرية يوم الأحد بتنظيم حملات توعية تستهدف الأمهات والأطفال لتحاشي الأجسام الغريبة.

وأكدت الإدارة العامة للأدلة الجنائية في نشرة يوم الأحد أن أطفال الفتح كانوا ضحية لقذيفة مدفع “هاون 85” من مخلفات تمارين رماية قديمة، وأن فرق بحث ميداني عثرت على دانة أخرى بالمنطقة، وتم التعامل معها فنيا خلال عمليات مسح موسع نهار الأحد.

ويبدو أن حادث أطفال قرية الفتح ليس الأول من نوعه بالمنطقة، ويقول المسؤول في اللجنة الشعبية خميس آدم للجزيرة نت إن حادثا مشابها وقع عام 2012 غرب الجبل وراح ضحيته عدة أشخاص.

ويرجو خميس أن يلتزم مسؤولو الحكومة الذين زاروهم بوعودهم بإجراء مسح لتطهير المنطقة من أي قذائف غير متفجرة محتملة، كما يدعو المنظمات الإنسانية للالتفات لواقع المنطقة المزري لأن الأطفال يعملون في بيع الخردة لسوء وضع الأسر الاقتصادي.

ويقول وزير الداخلية بشارة جمعة أرور للجزيرة نت إن فريقا مشتركا من الجيش والقوات الأمنية الأخرى وجهاز مكافحة الألغام سيبدأ مسحا شاملا للمنطقة وكل المناطق الشبيهة لتطهيرها من مخلفات الأسلحة.

ولتبقى ذكرى الأطفال الضحايا باقية، أكد الوزير أن الحكومة ستنشئ مدرسة تخليدا لأسمائهم، كما أكد التزام الحكومة بدفع ديات الضحايا.

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *