فوز أم خسارة.. ما الذي تعنيه نتائج الانتخابات في تركيا؟
|لم يكن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” سعيدًا هذه المرة بنتائج استطلاعات الرأي التي يهتم بها أشد الاهتمام منذ أن كان عُمدة لـ “إسطنبول”، فقد كان من أوائل السياسيين الأتراك الذين دشّنوا مركزية استطلاعات الرأي في العملية السياسية، حين أسس فريقًا مخصصًا لاستطلاع آراء الناخبين عام 1989 بينما كان مرشحًا لرئاسة حي “باي أوغلو” في المدينة التركية الأهم، كما صرّح(1) بحوار له في فبراير/ شباط المنصرم. بيد أن الشركات التي تقوم بتلك الاستطلاعات «تعددت وباتت تتلاعب بها» حد قوله(2)، مضيفًا: «صرت أشعر بنبض الناس في الميادين أكثر بكثير من شعوري بها عبر استطلاعات الرأي».
ثلاثون عامًا تحوّل فيها الرجل من روّاد مأسسة استطلاعات الرأي داخل الأحزاب السياسية، إلى أحد السياسيين المشككين فيها علنًا، وعلى النقيض، رسمت استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات المحلية التي أجريت أول أمس البسمة على وجوه أعضاء حزب الشعب الجمهوري، لا سيّما مرشحهم لعمودية مدينة إسطنبول “أكرم إمام أوغلو”، والذي رد على تشكيك أردوغان في الاستطلاعات وقتها قائلًا بأنه لا يعلم ماهية الاستطلاعات التي أغضبت أردوغان بهذا الشكل، لكن الاستطلاعات التي قام بها حزبه المعارض موثوق بها وإن لم يكن بالإمكان الإفصاح عنها. «يمكنكم معرفة نتيجتها إذا نظرتم لوجهي»، هكذا صرّح(3) “إمام أوغلو” قبل أن ترتسم ابتسامة واثقة على شفتيه.
أكرم أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري لعمودية مدينة إسطنبول (وكالة الأناضول) |
أول أمس إذن، وقف الأتراك أمام صناديق الاقتراع من أجل الانتخابات المحلية الرابعة منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة قبل 16 عامًا، في اقتراع سيكون الأخير قبل حلول عام 2023 حين تنعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية معًا بالتزامن مع احتفال الجمهورية بعيد ميلادها المائة، وهو احتفال يطمح الرئيس أردوغان أن يكون احتفالًا مزدوجًا يتوّج فيه الحزب مسيرة عقدين تقريبًا من الحُكم أعاد خلالهما تشكيل وجه الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا بشكل كامل. لكن طموحات أردوغان بدا وأنها تعرقلت بالأمس بينما ظهرت النتائج للنور على مدار ساعات المساء المتأخرة، فرُغم زيادة طفيفة في نسبة المصوّتين للعدالة والتنمية “45%” مقارنة بتلك التي حصل عليها الحزب في الانتخابات البرلمانية العام الماضي، إلا أنه خسر رئاسة تسع ولايات أهمها إسطنبول والعاصمة أنقرة، وهي خسارة صبّت لصالح حزب الشعب الجمهوري بالأساس، والذي حقق نسبة تصويتية جاوزت الـ 30% لأول مرة منذ وصول العدالة والتنمية للسُلطة، واقتنص أكبر ثلاث مدن في تركيا: إسطنبول وأنقرة، إلى جانب “إزمير” إحدى معاقله المعتادة.
كانت المفاجأة الأكبر للمعارضة في إسطنبول، والتي انتصر فيها مرشح حزب الشعب “أكرم إمام أوغلو” في مواجهة رئيس الوزراء السابق ومرشح العدالة والتنمية “بن علي يلدرم”، وهي أول مرة يقتنص فيها مرشح لحزب الشعب مقعد الحكم بإسطنبول منذ كان “أردوغان” نفسه عمدة للمدينة، وقد أتى إعلان فوز “إمام أوغلو” بعد معركة مثيرة وغير مسبوقة حبس فيها الجميع أنفاسه، حيث وصل الفارق بين يلدرم ومنافسه “إمام أوغلو” إلى 0.15% فقط أي أقل من عشرة آلاف صوت، وهو فارق ضئيل على غير العادة في ولاية انتصر الحزب الحاكم فيها بهامش مريح في الانتخابات المحلية السابقة، وقد توقفت وكالة الأناضول الرسمية عن متابعة بث الأخبار من إسطنبول ليلة الفرز وحتى أمس، بينما ظلت نسبة 1% من الصناديق بانتظار الفرز، مما أثار استهجان المعارضة ودفع بأنصارها عبر تويتر لتدشين هاشتاج «لن ننام»، بينما استمر الفرز وفق تصريحات الهيئة العليا للانتخابات حتى صباح اليوم، لكن الصناديق فُتحت في الأخير وكشفت عن زلزال سياسي من العيار الثقيل، ويذكر هنا أنه منذ انقلاب أيلول/سبتمبر 1980 العسكري فإن حزب الشعب الجمهوري حاز ذلك المقعد مرة واحدة فقط لخمس سنوات.
يتوجه الناخبون في المدن الكبرى للتصويت من أجل اختيار عمدة المدينة الكبرى واختيار عمدة البلدية الخاصة بهم وكذذلك اختيار ما يطلق عليه “مُختار” الحي.
لم تكن خسارة أنقرة هيّنة أيضًا، لكنها كانت متوقعة بالنظر لتقدم(4) مرشح الشعب الجمهوري “منصور ياواش” في الاستطلاعات بفارق ملحوظ عن مرشح العدالة والتنمية “محمد أوزهاسكي”، ومن ثم حُسمَت النتيجة مساء الأمس بفارق حوالي 3%، يُضاف لها ثالث المدن الكبرى التي خسرها الحزب الحاكم وهي مدينة “أنطاليا” الساحلية التي طالما تأرجحت بين تفوق المحافظين والعلمانيين على مر السنين، لكن الحزب الحاكم انتزعها عام 2014، قبل أن يخسرها بالأمس لتصبح ثالث أكبر مدينة يخسرها في غضون ساعات قليلة.
في أول تعقيب(5) له على النتائج؛ ألقى “أردوغان” خطابًا روتينيًا وجه فيه الشكر للمواطنين على مشاركتهم في العملية الانتخابية، ومشيرًا لأنه ورُغم خسارة مدن هامة، فإن حزبه قد انتصر في المُجمل مستمرًا على رأس الحياة السياسية التركية، وأن الحزب ماضٍ في أجندته من أجل تركيا الجديدة ومسيرة الإصلاح الاقتصادي بعد الهزة الأخيرة، في محاولة ضمنية للتقليل من أهمية خسارة المدن الكبرى والتأكيد على مركزية التصويت العام في النظام السياسي، واستمرار هيمنة “العدالة والتنمية”، وهي ملحوظة صحيحة جزئيًا بالفعل كما يثبتها حصوله مع حليفه الحزب القومي على أكثر من نصف أصوات إجمالي المصوتين، لكنها تقلل أكثر مما ينبغي من أهمية المحليات التي يعلم أردوغان دونًا عن غيره محوريتها في العملية السياسية كعُمدة سابق لإسطنبول، وهي عمودية ساعدت في ميلاده السياسي ومسيرته غير التقليدية التي غيرت تركيا، تمامًا كما يتوقع أن تفعل مع عمدة المدينة الجديد الجمهوري “إمام أوغلو” والذي يصغر أردوغان بستة عشر عامًا.
تنقسم(6) المحليات في تركيا إلى 30 مدينة كبرى يفوق التعداد في كلٍ منها 750 ألف مواطن، أهمها إسطنبول وأنقرة وإزمير، والأخيرة كمعظم ولايات الساحل الغربي غالبًا ما تكون تحت سيطرة حزب الشعب الجمهوري، أما الـ 51 مدينة أخرى فإن تعدادها يقل عن ذلك الرقم. ويتوجه الناخبون في المدن الكبرى للتصويت من أجل اختيار عمدة المدينة الكبرى (كعمدة إسطنبول مثلًا)، علاوة على اختيار عمدة البلدية الخاصة بهم داخل المدينة، وأخيرًا اختيار ما يطلق عليه “مُختار” الحي الذي يسكنون فيه، أما ناخبو المدن العادية قليلة السكان فإنهم ينتخبون عمدة للمدينة كلها و”مختارًا” للحي إذ تقسّمت مدنهم إلى أحياء فقط نظرًا لصغرها.
لا تحظى المحليات التركية بنفس الاهتمام الذي تحظى به نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية لأسباب منطقية، لكنها تظل واحدة من أهم محددات العملية السياسية كما ذكرنا، لا سيّما منذ التزام تركيا بدرجة أكبر من اللامركزية خلال فترة وجود العدالة والتنمية في السلطة وحتى الآن، مما منح رئاسة الولايات التركية البالغ عددها 81 ولاية أهمية كبيرة للأحزاب كافة، خاصة ولاية إسطنبول التي يُعتبر الفوز بعموديتها شهادة ميلاد سياسية هامة لكل الساعين إلى مقعدي الرئاسة ورئاسة الوزراء. ودونًا عن غيرها، شكلت محليات عامنا الحالي 2019 محطة مهمة، إذ أنها آخر استحقاق انتخابي عام يجري في تركيا حتى عام 2023، وأول انتخابات محلية تجري منذ تشكيل التحالف الانتخابي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية عام 2015، وفشل عملية السلام مع الأكراد وعودة العمليات المسلحة، وكذلك إعلان حركة كولن كـ «جماعة إرهابية» وإقصائها من القضاء والشرطة في نفس العام.
إضافة لذلك فإنه أول استحقاق انتخابي منذ أزمة هبوط عُملة الليرة المستمرة حتى اللحظة، فقد تمت آخر انتخابات خلال يونيو/حزيران للعام الماضي 2018، حين توقف سعر الليرة عند 4.61 أمام الدولار، في حين أن الليرة جاوزت رقم 6 أمام الدولار بعد شهرين فقط، لتستقر بعد ذلك بين خمسة وخمسة ونصف، قبل أن تهبط خلال الأسبوع الماضي إلى 5.75 ثم تعود إلى خمسة ونصف مجددًا. وتأتي الانتخابات أيضًا في أعقاب تأزم (7) الوضع الاقتصادي على مدار العام الماضي، والذي شهد نسبة تضخم جاوزت 20%، وزيادة في معدلات البطالة وتراجعًا في مؤشرات النمو مقارنة بالعقد الأول لوجود العدالة والتنمية في السُلطة، وهو عقد شهد معدلات النمو الأكبر والأهم لشعبية الحزب على مدار السنوات الماضية.
تشكل هذه المحليات أيضًا استفتاءً على شعبية “أردوغان” كرئيس للبلاد بصورة غير مباشرة، فقد حاز الرجل في انتخابات الرئاسة الماضية على ما يفوق 26 مليون صوت، في حين حصل حزب العدالة والتنمية في نفس الانتخابات البرلمانية -الجارية وقتها جنبًا إلى جنب مع الرئاسية وفق التعديل الدستوري الجديد- على 21 مليون صوت فقط، وهو ما دفع الكثيرين للإشارة إلى تفوّق(8) شعبيته كزعيم سياسي على شعبية حزبه نفسه، ومن ثم بدا الحزب أكثر اعتمادًا على شخص أردوغان مقارنة بأي وقت مضى كما تشي اللوحات المعلقة بطول إسطنبول وعرضها قبيل انتخابات أول أمس، فقد التصقت صوره بصور كافة مرشحي المناطق والأحياء بالمدينة فيما بدت وكأنها دعايا رئاسية لا محلية، بيد أنها محاولات لم تُجدِ بشكل كامل كما بدا في وجه أسوأ ركود اقتصادي تواجهه تركيا منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
تُعَد محليات أول أمس الانتخابات العاشرة التي يخوضها الأتراك منذ عام 2009، والتي شملت محليات 2009 و2014، والانتخابات الرئاسية لعام 2014، والانتخابات العامة أعوام 2011 ومرتين في عام 2015 وأخيرًا في العام الماضي 2018، علاوة على استفتائين لتعديل الدستور عامي 2010 و2017، وهو رقم كبير بالمقارنة مع العقد السابق 1999-2009 والذي انتخب فيه الأتراك خمس مرات فقط، وكذلك مقارنة على ما يبدو بالعقد القادم والذي سيشهد انتخابات عامة عامي 2023 و2028، وانتخابات محلية عامي 2024 و2029.
كان الاستفتاء كاشفًا، إذ أظهرت نتائجه رفضًا لأجندة العدالة والتنمية فيما يخص النظام الرئاسي في المدن الكبرى التي طالما فاز بها الحزب
تكمُن أهمية المقارنة بين الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة منذ 2009 فيما شكّله ذلك العام وما تلاه من نقاط تحوّل في الحياة السياسية التركية، بدءًا من ظهور الانشقاق في تحالف الحزب الحاكم مع حركة كولن عام 2009 حول القضاء، ثم التعديلات الدستورية عام 2010 والتي عارضتها حركة كولن أيضًا، ثم أحداث “جزي بارك” عام 2013 بالتزامن مع تصاعد الأزمة السورية وظهور ملف اللاجئين داخل تركيا، ثم الكشف عن ملفات فساد عام 2015 وما تلاه من قطيعة رسمية مع حركة كولن، ثم التحالف مع القوميين بعد ذهاب الأتراك للانتخابات البرلمانية مرتين في العام نفسه مقابل وقف عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، ثم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة عام 2016، وأخيرًا التعديلات الدستورية لعام 2017.
كان الاستفتاء كاشفًا، إذ أظهرت نتائجه رفضًا لأجندة العدالة والتنمية فيما يخص النظام الرئاسي في المدن الكبرى التي طالما فاز بها الحزب (إسطنبول وأنقرة)، وكان ذلك أول استحقاق يخسره الحزب في هاتين المدينتين منذ وصوله للسلطة في سابقة كُتب لها التكرار في الانتخابات المخلية الأخيرة. وعلى الرُغم من تمرير التعديلات الدستورية في الأخير، إلا أن الحزب بات أكثر اعتمادًا على الشرائح المحافظة في قلب الأناضول، علاوة على قواعد الحزب القومي شريكه الرسمي فيما يُسمى بـ”التحالف الشعبي،” وإن كان ثمة ما أثبتته النتائج بالأمس، فهي أن خسارته لأنقرة وإسطنبول في استفتاء عام 2017 لم تكن فقط اعتراضًا شعبيًا عابرًا على حزمة التعديلات الدستورية، بل كانت بداية لنمط معارض سيتزايد بعدم الرضا عن أسلوب الحزب الحاكم من جانب سكان المدن.
يبدو هنالك اتجاهان لتحليل النتائج، أولهما اتجاه يعتمد على إجمالي الأصوات ونسبة كل حزب منها، وهو مؤشر هام لقياس شعبية الأحزاب في كافة أنحاء البلاد، وكذلك لاستشراف التحوّلات المُمكنة في الانتخابات العامة القادمة التي ستعتمد حصرًا على تلك النسبة في توزيع مقاعد البرلمان، واتجاه ثانٍ معتمد على عدد المدن الكبرى ثم الصغرى التي حصل على رئاستها كل حزب، وهو اتجاه ذي دلالة محلية لكنه محدود بحجم تلك المدن وتعدادها السكاني.
تبدو النسبة الإجمالية للحزب الحاكم مستقرة عند حوالي 45 %، لكنها نسبة زاد تركُّزها خارج المدن الكبرى مقابل تقلُّصها بداخلها، مما منح عمودية المدن الكبرى للمعارضة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إمكانية تحقيق حزب الشعب الجمهوري لأغلبية برلمانية في الانتخابات العامة المقبلة، وهي إمكانية لا تزال بعيدة المنال وفق نتائج الأمس، فقد حصل حزب الشعب على 30% كما ذكرنا، إلا أنه ورغم ذلك فإنها نسبة تُعَد انتصارًا غير مسبوق له وقد ظل لسنوات طويلة يصل بالكاد لــ 25%، وقد زاد الحزب الجمهوري أيضًا من أعداد المصوتين له بشكل ملحوظ مقارنة بالانتخابات العامة التي أجريت في يونيو للعام الماضي، فقد حصل أول أمس على 14 مليون صوت تقريبًا بالمقارنة مع 11.35 مليون قبل تسعة أشهر، أي أنه قد نجح في زيادة قاعدته بأكثر من مليوني ونصف صوت، في حين تراجعت أصوات العدالة والتنمية من 21.3 مليون إلى حوالي 20.6 ليخسر حوالي 700 ألف مصوّت على أقل تقدير.
وبينما هيمن الحزبان الكبيران على ما يقرب من 75% من الأصوات، شهدت أصوات حزب الحركة القومية (القومي التركي) تراجعًا شديدًا، من حوالي 5.6 مليون صوت حصل عليها في 2018 إلى ما يقارب الــ 3.5 مليون، مع هبوط نسبته الكلية من 11 إلى 7%، وهي خسارة أثرت على نصيبه من المدن الكبرى، إذ هبطت من ثلاث مدن في السابق إلى واحدة فقط هي مدينة “مانيسا”، وهي مدينة لم يرشح فيها العدالة والتنمية مرشحًا بالأساس نظرًا لتحالفهما، في حين انتقلت مدينتا “أضنة” و”مرسين” من سيطرته لسيطرة حزب الشعب، لكن الحزب القومي نجح في زيادة نصيبه من المدن الصغيرة من خمس إلى عشر، فيما يمكن اعتباره انتصار محلي محدود ليست له مدلولات سياسية حقيقية، غير أن تلك النسبة الضئيلة تظل شديدة الأهمية حتى عام 2023 بالنسبة للحزب الحاكم، إذ أنها تساعد العدالة والتنمية المتحالف معه ليتجاوزا معًا نسبة الـ 50% ومن ثم يشكلا الحكومة دون الحاجة إلى حزب آخر، وهو تحالف ساري منذ عام 2015.
حصل حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أول أمس على 15 ألف صوت فقط ليخسر رئاسة البلدية أيضًا لصالح الحزب الحاكم
انخفضت أيضًا أعداد المصوتين لحزب “الخير” -المنشق عن الحزب القومي والمتحالف مع حزب الشعب المعارض- من خمسة ملايين تقريبًا قبل تسعة أشهر إلى حوالي 3.5 مليون، حيث هبطت نسبته الكلية من 10 إلى 7.5% من إجمالي المصوتين، إلا أنه على عكس القوميين لم ينجح في انتزاع رئاسة أية مدينة رغم تفوقه عليهم في عدد المصوتين ونسبتهم بشكل طفيف. يُضاف لذلك عجز الحزب عن تشكيل منافسة جدية لحزب العدالة والتنمية في مدن كان بالإمكان انتزاعها من حزب العدالة مثل مدينة “بالق أسير” الساحلية ذات الميول العلمانية واليسارية، والتي لم يرشح فيها حزب الشعب مرشحًا نظرًا لتحالفه مع حزب الخير، ورغم ذلك فإن الحزب الحاكم فاز بها بفارق لا يتجاوز 2%.
أخيرًا يأتي حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ومعاقله في الجنوب الشرقي، وقد كان من الخاسرين أيضًا، فقد هبطت أصواته من حوالي 5.86 مليون في العام الماضي إلى مليوني صوت بالكاد، ليكون الخاسر الأكبر في أعداد المصوتين الإجمالية، علاوة على هبوطه من المركز الثالث وفق نسبة التصويت إلى المركز الخامس، حيث هبطت نسبته من 11.7 إلى أقل من 5%، في ضربة كبيرة له بعد أن كان تفوّقه على الحزب القومي التركي إنجازه الأهم في 2018، يُضاف لذلك خسارته المفاجئة لرئاسة مدينة “شرناق” الحدودية مع العراق _وهي إحدى معاقل حزب العمال الكردستاني_ لصالح حزب العدالة والتنمية، رُغم حصوله على 70% من المصوتين فيها قبل تسعة أشهر، إذ انخفضت أعداد المصوتين له من 164 ألفًا إلى أقل من 20 ألفًا، فيما يبدو أنه اتجاه لعزوف أنصار الحزب عن التصويت في المحليات؛ اتجاه تعززه نتائج ولاية “موش” ذات التعداد الكردي والتي تجاوز فيها حزب الشعوب في 2018 ال 100 ألف صوت، في حين حصل أول أمس على 15 ألف صوت فقط ليخسر رئاسة البلدية أيضًا لصالح الحزب الحاكم. وعدا ذلك استمر الحزب في هيمنته على ثلاث مدن كبرى هي “ديار بكر” و “وان” و “ماردين”.
تبدو التحالفات القائمة حاليًا إذن مضرة نسبيًا للحزبين الكبيرين -العدالة والتنمية والشعب الجمهوري- على المستوى المحلي، لكنها لا تزال مهمة على مستوى العملية السياسية المركزية ومعقلها بالبرلمان، فهي تمنح العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية وسيطرته الحكومية، وكذلك تزيد من وزن المعارضة لتقترب من نسبة 40%، ومن الواضح أنها تحالفات قد تظل مستمرة حتى تظهر نتائج 2023، لنرى وقتها إن كانت ستؤتي أكلها أم سيظل الحزبان الكبيران في صعود وصولًا لنسبة تصويتية مريحة لهما حينئذ تغنيهما عن أي تحالفات قد تجلب أعباءً إضافية عليهما.
ويبقى تراجع القومية بصورتيها التركية والكُردية خبرًا سعيدًا نسبيًا للاستقطاب الحادث فيما يخص الملف الكردي، فهبوط أعداد المصوتين التي حصل عليها الحزبان القومي التركي والشعوب الكردي يشير إلى هيمنة ملف الاقتصاد وتراجع الأجندات القومية على عكس الحال في انتخابات 2015 و2018، وهو ملف سيظل مهيمنًا بينما يتعافى الاقتصاد التركي خلال السنوات المقبلة -بافتراض استقراره بعد تلك الانتخابات حتى 2023.
وسيكون من المبكر أيضًا الحديث عن انحصار السياسة في نظام ثنائي بين حزبين كبيرين وفق مؤشرات انتخابات واحدة في ظل أزمة اقتصادية لا سيما وهي انتخابات محلية لا برلمانية، لكن على ما يبدو أن قُطبي المحافظين-العلمانيين سيظل مهيمنًا على المشهد السياسي التركي كما كان منذ أول انتخابات حرة عام 1950، فالنبرة القومية المتزايدة لحزب العدالة والتنمية أفرغت أجندة الحزب القومي من معناها جزئيًا، كما أن أجندة حزب “الخير” لا تزال غير واضحة تمامًا بالنظر لجذوره القومية المتعارضة جزئيًا مع أجندته الإصلاحية، ومن ثم تظل آمال الأصوات المعارضة ملتفة حول حزب الشعب الجمهوري، لا سيما وقد تخلى منذ سنوات طوال عن علمانيته المتطرفة _والتي أبعدت عنه في السابق شرائح أكثر اتساعًا_ لصالح الدفاع عن قيم الجمهورية التركية في صورتها المعتدلة.
تظل في الأخير سلاسة العملية الانتخابية وشفافيتها وقدرة المعارضة على انتزاع مدن كبرى كما حدث يوم الأحد هي إشارات واضحة على صحة العملية السياسية التركية ورسوخها مقارنة بمعايير المنطقة الشرق أوسطية، رُغم إشكاليات بنيوية عديدة بها تجعلها باستمرار بعيدة عن المرجو وفقًا للمعايير الأوروبية والغربية، لا سيّما ملف استقلال القضاء وهامش الحرية المتاح للصحافة وغيرها، بيد أن تركيا كما رأينا بالأمس تثبت أن وجود الصندوق لا يزال ملمحًا صحيًا لا يُستهان به في أي نظام سياسي مهما ازدادت أمراضه توطنًا، وأن العملية الديمقراطية هي قلب السياسة القادر على ضخ الدماء الجديدة إلى أهم مواقع الأخيرة، بما يضمن شرعية حقيقية غير مزيفة للدولة وحكّامها، بل وربما يتيح لها بين الحين والآخر فرصًا أفضل لمداواة بعض أمراضها المزمنة.