هل بدأت الحرب الأمريكية على “هواوي” الصينية؟
|قبل شهرين فقط، كان بإمكان بحث سريع على محرك “غوغل” عن شركة تكنولوجيا المعلومات الصينية “هواوي” أن يقودنا إلى مئات القصص عن أحدث صفقاتها ومشاريعها المنتشرة في حوالي 140 بلدًا، لا سيّما وقد أصبحت(1) في الربع الثاني للعام الماضي ثاني أكبر شركة لإنتاج الهواتف الذكية في العالم بعد نظيرتها الكورية سامسونغ، متفوقة بذلك على شركة آبل الأمريكية للمرة الأولى خلال سبع سنوات، لتحتل الأخيرة المركز الثالث لفترة وجيزة وغير مسبوقة في الربع المذكور “أغسطس/آب”، بيد أن بحثًا مشابهًا اليوم، بعد ما جرى خلال شهري ديسمبر/كانون الأول المنصرم ويناير/كانون الثاني الحالي، يقودنا في معظمه إلى أخبار مطوّلة عن رُدهات المحاكم، والمخاوف الغربية المتزايدة من سيطرة هواوي التكنولوجية، وأخيرًا الاتهامات التي انهالت على رأس الشركة في الولايات المتحدة.
كانت آخر تلك الاتهامات ما أعلنت عنه منذ أيام قليلة وزارة العدل الأمريكية، حين عقدت مؤتمرًا صحافيًا بحضور رئيس المباحث الفيدرالية (FBI) “كريستوفر راي” اتهمت فيه “هواوي” بسرقة التكنولوجيا الأمريكية وسرقة أسرار تجارية منها والتحايل على بنوكها للالتفاف على العقوبات الموجهة لإيران، وصرّح(3) المدعي العام بالوكالة “ماثيو ويتاكر” خلال المؤتمر بأن «جرائم هواوي تعود لعشر سنوات على الأقل وتشمل أعلى رأس بالشركة»، حيث أشار(4) “ويتاكر” إلى محاولة أحد مهندسي هواوي سرقة معلومات عن روبوت تقوم الشركة الأمريكية “تي موبايل” بصناعته، بما في ذلك سرقة قطعة صغيرة منه عام 2014، بالإضافة لإنكار صلاتها بشركة “سكايكوم” المملوكة لها بالفعل في هونغ كونغ، والتي قامت عن طريقها بالدخول للسوق الإيرانية و«تضليل البنوك الأمريكية» التي تعاملت معها في هذا الصدد.
كانت قضية “سكايكوم” الأخيرة تلك وملف خرق العقوبات على إيران -والتي قررت إدارة ترامب معاودة العمل بها ضاربة عرض الحائط اتفاق فيينا الدولي 2015- محور أحداث متسارعة، وصلت حد إصدار كندا مذكرة اعتقال بحق المديرة المالية لهواوي “مِنغ وانزو”، وهي ابنة مؤسس الشركة وأحد أعضاء مجلس إدارة “سكايكوم” كما اتضح، بناءً على طلب من واشنطن تمهيدًا لمحاكمتها هناك، وقد اعتُقلت بالفعل في الأول من ديسمبر المنصرم بمدينة “فانكوفر” الكندية، قبل إخلاء سبيلها مع تحديد إقامتها وإلزامها بارتداء جهاز إلكتروني في إحدى قدميها لتظل تحت الملاحظة، في حين تظل إجراءات ترحيلها لأميركا قيد التفاوض بين الطرفين.
لم تنفتح أبواب المعركة بالطبع خلال شهرين فقط، فقد تراكمت أحداث متشابكة سياسية واقتصادية وتكنولوجية لسنوات تحوّل خلالها الترحيب الأمريكي بالتجربة الرأسمالية الصينية، والاندماج الهادئ للصين في النظام العالمي، تحول إلى توجس من «تلاعب» بكين وشركاتها بالسوق والالتفاف على قوانينه بشكل يضر المصالح الأمريكية والغربية، وكذلك تحوّلت خلالها الصين من اقتصاد ناشئ متخصص في إنتاج نسخ رخيصة وأقل جودة من المنتجات الغربية؛ إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي وسوق يشهد التحوّل تدريجيًا نحو الريادة في صناعات ثقيلة ومتطورة، فضلًا عن صعود “شي جينبينغ” لقيادة الصين ورؤاه الطموحة لتوسيع نطاق النفوذ الصيني، وصعود ترامب في أميركا مع خطاب أشد قومية تشكل الحرب التجارية مع الصين إحدى ركائزه، وبالأخص شركات التكنولوجيا الكبرى والتي تعمل في مجال شديد الحساسية للأمن القومي الأمريكي.
كيف ظهر تنين الاتصالات الصيني؟
تأسست هواوي عام 1988 كموزّع للهواتف الأرضية في الصين، قبل أن تتحول خلال ثلاثين عامًا إلى واحدة من كبرى شركات الاتصالات في العالم من حيث إنتاجها للمعدات والأجهزة المتعلقة بالإنترنت وكذلك الهواتف الشخصية. تبدو قصة نجاح الشركة، على غرار نظيرتها التسويقية “علي بابا”، مرتبطة بشخصية ريادية طموحة وغير تقليدية مثل “جاك ما” مؤسس الأخيرة المنافسة لأمازون، لكن هواوي في الحقيقة تأسست ولا تزال تحت قيادة ضابط سابق بالوحدة الهندسية لجيش التحرير الصيني يدعى “رِن جِنغفَى”(6).
خلال سنوات انفتاحها الأولى على الأسواق العالمية، اعتمدت الصين بشكل كامل على الاستيراد لسد احتياجاتها في مجال معدات الاتصالات، ولم تكن هواوي آنذاك سوى شركة تبيع ما تستورده من هونغ كونغ من بدّالات الهواتف وأجهزة التنبيه ضد الحرائق، إلا أن الشركة سرعان ما بدأت في تطوير بدالاتها الخاصة بحلول التسعينيات عن طريق تفكيك وإعادة تركيب المعدات الأجنبية، قبل أن تقرر نقل اهتمامها نحو «تطوير بدالة أكبر وأكثر تعقيدًا لم تكن الشركات الكبرى راغبة في نقلها للشركات الصينية»، كما يشير لذلك الباحث الصيني “فيلَى بان”، وذلك عبر الاعتماد بالكُلية على التكنولوجيا المحلية وباحثي الجامعات الصينية(7)، بدلًا من الشراكات مع الشركات الأجنبية عكس الاتجاه السائد في ذلك الوقت(8).
بالرغم من تربعه على رأس شركة رأسمالية عملاقة، يتحدث “رِن” دومًا عن “ماو زيدونغ” مؤسس الصين الشيوعية باعتباره الإلهام الرئيس لاستراتيجية تأسيس وتوسيع هواوي، فبينما كانت هواوي تستثمر مبالغ ضخمة في أبحاثها للحاق بأحدث التقنيات الأمريكية واليابانية، كان لزامًا عليها أن تدر أرباحًا جيدة في المقابل لتظل قادرة على البقاء في السوق الصيني، الذي منح الأفضلية للمستثمر الأجنبي في تلك الفترة ليتيح أحدث المنتجات للصينيين. وقد استلهم “رِن” من “ماو” فكرة التأسيس انطلاقًا من الريف ثم تطويق المدن، ليمنح نفسه ميزة تنافسية بوجه الشركات الأجنبية التي ركزت على المدن ولم تملك أية معرفة -أو اهتمامًا-بالريف، تمامًا كما فعل “ماو” في مواجهة النظام القومي المدعوم غربيًا في المدن قبل أن يسيطر على الصين كلها. وتباعًا، استطاعت هواوي بالفعل تحقيق أرباح كبيرة من هيمنتها على سوق الهواتف في القرى الصينية، وشكلت شراكات مع مصالح البريد والاتصالات المحلية هناك لتنتشر أجهزتها في معظم ربوع الريف، قبل أن تثمر استثماراتها الضخمة في البحوث والتطوير في الأخير، وتساعدها على التوغل بالمدن والسيطرة على حصة كبيرة من السوق الصيني كاملًا في غضون عقد واحد من الزمن.
لم تكن هواوي قادرة على خلق المعجزة وحدها، بل كان محور قدرتها على تحقيق أهدافها هو تحوّل الحكومة الصينية خلال منتصف التسعينيات من تشجيع غير مشروط للاستثمار الأجنبي، إلى الالتفات للشركات الصينية الناشئة في المجالات الحيوية وكبح مميزات شركات الاتصالات الأجنبية الممنوحة سابقًا. وفي تلك الفترة لفتت هواوي أنظار الحزب الحاكم والجيش الصيني، وتوالت عليها زيارات مسؤولين رفيعي المستوى سياسيًا وعسكريًا، وكانت أبرز تجليات دعمها في الريف اتفاقات -اعتبرها البعض مثيرة للجدل وشبه فاسدة- تمنح موظفي الإدارات المحلية نسبة من أرباح هواوي، مقابل احتكار الأخيرة لتوريد كافة معدات الاتصالات. وبالتوازي مع ذلك، صعدت أسهم هواوي في المدن تدريجيًا، وحصلت على عقود حكومية للعمل في السكك الحديدية وتنمية البنية التحتية وتدشين شبكة اتصالات لجيش التحرير الصيني، علاوة على فتح أبواب التمويل السخي للشركة عن طريق قروض ضخمة ويسيرة من البنوك الحكومية.
وبنهاية التسعينيات، كانت هواوي على موعد مع عقد الصفقات عالميًا، حيث وضعت أول قدم لها خارج الصين باستثمار في هونغ كونغ عام 1996 لتصدير بدالات الهواتف، بعد أن كانت تستوردها من هناك للمفارقة قبل أقل من عقد. وتلى ذلك صفقة في روسيا لتوريد بدالات هواوي الخاصة، ثم تايلاند والبرازيل وجنوب أفريقيا ونيجيريا وعدد من البلدان الإفريقية، وأخيرًا دول الاتحاد الأوروبي الذي فتح أبوابه بصفقتين في هولندا وألمانيا عام 2001، ثم تبعتهما دول غربية أخرى بما فيها الولايات المتحدة في نفس العام. وبحلول العام 2004، كانت هواوي شريكًا في 14 من أصل 19 صفقة لبناء شبكات الجيل الثالث 3G، ثم نصف(9) مشاريع شبكات الجيل الرابع 4G في القارة الأوروبية.
بيد أن تنامي دور هواوي في البنى التحتية للاتصالات في دول كبرى، بالتزامن مع استمرار علاقتها الوثيقة بالحكومة الصينية، وعدم إفصاحها(10) عن هوية مُلّاكها الحقيقيين إلى جانب مديرها التنفيذي “رِن جنغفَى”، وتاريخ الأخير في جيش التحرير الصيني، وعدم رغبة الشركة في طرح أسهمها بالبورصة، باتت تشكل جميعها أسبابًا للتوجس من طموح الشركة المتنامي لتوسيع تعاقداتها عالميًا، خاصة في الدول الكبرى التي تعتبر الصين غريمًا أو منافسًا كاليابان والولايات المتحدة، وبالتحديد خلال الأعوام القليلة المقبلة والتي ستشهد تدشين الجيل الخامس من شبكات الإنترنت 5G.
هواوي: شركة خاصة أم ذراع حكومي؟
على غرار انطلاقها من ريف الصين، تكمن استراتيجية هواوي عالميًا في كسب الأسواق الناشئة لتوسيع هامش أرباحها، بما يمكنها من دخول أثقل للأسواق المتطورة يجعلها في القلب من عملية صناعة التكنولوجيا الجارية هناك، وهو ما يجد صدى لدى العشرات من الدول النامية الراغبة في الحصول على أحدث المعدات والهواتف بأرخص الأسعار. بيد أن التساؤلات قد نمت بكثرة حيال نوايا الشركة وعلاقتها بالدولة الصينية وإمكانية الوثوق بها لحماية البيانات التي تمر عبر معداتها.
يقول جيمس كلابر، المدير السابق لوكالة الاستخبارات، بأن ملف شركات التكنولوجيا الصينية واحدة من الملفات التي يتفق فيها مع إدارة ترامب.
رويترز
ليلة تلو الأخرى، تحديدًا بين منتصف الليل والساعة الثانية صباحًا، في مقر الاتحاد الإفريقي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا والذي موّلت الصين تشييده، كانت(11) خوادم الإنترنت ترسل البيانات المخزّنة بحواسيب الاتحاد لخوادم أخرى تقع بمدينة “شانغهاي” الصينية، قبل أن تنكشف عملية التجسس من جانب الاتحاد الإفريقي، وتُجرى عملية مسح شاملة لمقر الاتحاد ظهرت معها سلسلة من الميكروفونات المخبأة في الطاولات والجدران، والتي أزيلت بطبيعة الحال في نفس الوقت الذي جرى فيه استبدال خادمات شركة هواوي المستخدمة حينها. وبينما نفت الصين آنذاك ادعاءات التجسس نفيًا قاطعًا بل وسخرت منها، حاول الاتحاد الأفريقي المهتم باستثمارات الصين التقليل من شأن الفضيحة للحفاظ على العلاقات معها، إذ صرّح رئيس رواندا “بول كاجامي” -المسؤول عن رئاسة الاتحاد وقتها- بأنه لا يعتقد «بأن ثمة شيء يجرى هنا (بمقر الاتحاد) لا نود معرفة الناس به.. وأنني لست قلقًا حيال التجسس عليّ في هذا المبنى».
لم يعبأ “كاجامي” بتجسس هواوي لصالح الصين، إلا أن كثيرين غيره تثير تلك العلاقة بين هواوي والنظام الصيني الحاكم مخاوفهم، وعلى رأسهم واشنطن، والتي بدأت في انتهاج سياسات لإقصاء هواوي من صفقات ومجالات معيّنة بالسوق الأمريكية منذ عهد أوباما. فعلى سبيل المثال، قام(12) أوباما عام 2011 بالضغط لمنع استحواذ هواوي على أصول شركة التقنية الأمريكية “ثري ليف”، كما وقّع(13) في 2013 على قانون لمواجهة التجسس يمنع وكالة ناسا ووزارتي التجارة والعدل من شراء أي منظومات معلوماتية بدون موافقة المسؤولين الفيدراليين، والذين يتوجب عليهم إصدار تقييم لتلك المنظومات يشمل «أي خطورة مرتبطة بإنتاج أو تصنيع أو تجميع» أي من أجزائها في الصين. ومن جانبها علقّت بكين وقتها مُطالبة واشنطن بالتراجع عن القانون للحفاظ على الثقة في العلاقات بين البلدين.
يقول(14) جيمس كلابر، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الوطنية في إدارة أوباما، بأن ملف شركات التكنولوجيا الصينية واحدة من الملفات التي يتفق فيها مع إدارة ترامب، إذ يرى بوجوب اعتبارها «امتدادًا للاستخبارات الصينية»، وهو مسار تنتهجه بوضوح إدارة ترامب والكونجرس الأمريكي، حيث أصدر الأخير قانونًا قبل أشهر يمنع كافة الهيئات الفيدرالية والأطراف المتعاقدة معها من شراء معدات اتصالات صينية، علاوة على قانون(15) تجري إدارة ترامب إعداده مؤخرًا لتقييد كافة مبيعات الاتصالات الصينية داخل الولايات المتحدة. ولا يُرجى من تلك الجهود فقط حماية الشبكات والمعلومات داخل أميركا اليوم، بل إن الموضوع الأهم حاليًا هو البنية التحتية المعلوماتية الجديدة التي يجري تشييدها لإطلاق الجيل الخامس من شبكات الإنترنت.
هواوي و5G: الصراع على الطفرة القادمة
ينتظر العالم إطلاق الجيل الخامس من شبكات الإنترنت خلال عام أو يزيد، وهي شبكات ستوفر سرعات فائقة للاتصالات تصل لعشرين ضعفًا سرعة نظيرتها المستخدمة اليوم، وتكمُن عبقرية وحساسية الجيل الخامس في الطفرة التي سيُحدثها في مجالات عديدة، والنطاق الأوسع لاستخدامه المنتظر أن يشمل كافة أنواع البنى التحتية والصناعات، إذ يساعد(16) على متابعة سير المرافق العامة والآلات بالمصانع بشكل مباشر عن بُعد، وربما التحكّم فيها.
وسيفتح ذلك التحوّل من النقل السريع للمعلومات إلى النقل المباشر لها إمكانية إدماج عمليات كثيرة في عالم الإنترنت لم تكن السرعة وحدها كافية لإجرائها آليًا أو عن بُعد، مثلًا إجراء عمليات جراحية كاملة عن بُعد، والتي تحتاج نقلًا مباشرًا فائق السرعة لبيانات كثيرة عن موقع كل نسيج عضوي وكل أداة طبية بدقة متناهية لم تُكن متاحة قبلًا، وكذلك سيكون بإمكان السيارات(17) ذاتية القيادة معالجة مجموعة دقيقة وكبيرة من البيانات عن موقعها وسرعتها وسرعة كل ما يحيط بها، بشكل يمكّنها من اتخاذ قرارات بخصوص اتجاهها في مدة زمنية لا تتجاوز أجزاء من الألف في الثانية.
ستنجم عن تلك الطفرة إشكاليتان بالنسبة لمفهوم الأمن القومي، أولهما أن كمّية المعلومات المعرضة للخطر -إن اختُرقَت الشبكة- أكبر وأوسع نطاقًا وأكثر حساسية وتشعبًا، وثانيهما أن اختراق الشبكة يستتبع بالضرورة إمكانية التلاعب بها ومن ثم امتلاك القدرة على تعطيل أو تخريب معظم إن لم يكن كُل العمليات الجارية في المنشآت والمساحات العامة. ومن هنا نستطيع فهم السلسلة الأخيرة من منع أو تقييد التعامل مع شركات التكنولوجيا الصينية في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى تضع اللمسات الأخيرة على الجيل الخامس، حيث تتمتع تلك الدول بالحد الأدنى من الثقة فيما بينها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإن شابت تلك العلاقات فضائح تجسس أحيانًا، في حين تتسم علاقاتها بالصين بثقة أقل كثيرًا بالنظر للتضارب المنطقي بين دول أسست _واستفادت من- النظام الدولي القائم، ودولة صاعدة تحاول احتلال ما تعتقد بأنه موقعها الطبيعي وإزاحة شاغليه.
اتسعت إذن قائمة الدولة المتوجسة من هواوي، إذ انضمت(18) لها أستراليا في أغسطس/آب الماضي بمنعها للشركة الصينية من تقديم تكنولوجيا الجيل الخامس ضمنيًا عبر قانون أشار لحظر مشاركة الشركات الخاضعة لتوجيهات حكومة أجنبية، وتبعتها نيوزلندا في نوفمبر بنفس الإجراءات، ثم اليابان في ديسمبر/كانون الثاني المنصرم والتي امتنعت(19) حكومتها وشركات الاتصالات الأربع فيها عن التعاون مع هواوي -وشركة ZTE الصينية أيضًا- خلال تدشين الجيل الخامس، كما قررت(20) شركة بريتيش تيليكوم البريطانية إزالة بعض معدات هواوي المستخدمة في شبكات الجيل الرابع لديها وعدم التعامل معها في بناء شبكات الجيل الخامس، وأخيرًا -قبل أيام- منعت(21) الحكومة التايوانية استخدام أية معدات صنعتها هواوي في منشآتها الحكومية.
من ناحيتها، لم تتخذ دول الاتحاد الأوروبي المركزية كألمانيا وفرنسا وإيطاليا أية قرارات لمنع هواوي من المشاركة في الجيل الخامس، وكذلك لا تزال استثمارات هواوي مستمرة بعيدًا عن الحكومات الغربية وبناها المعلوماتية المهمة، وإن كانت أحداث عدة هنا وهناك تشي لنا بتصاعد رصد تجاوزات الشركة من دول ومؤسسات أوروبية، منها بولندا التي اعتقلت(22) موظفًا بهواوي واتهمته بالتجسس؛ اتهام لم تنفه هواوي مباشرة لكنها فصلت الموظف وصرّحت بأنه تصرّف من تلقاء نفسه، ومنها أيضًا جامعة أوكسفورد البريطانية التي قررت(23) قبل أيام الامتناع عن قبول أية منح أو تبرعات بحثية من هواوي على أن تعيد النظر في القرار خلال ثلاثة أو ستة أشهر من تاريخه.
الفصل القادم في قصة هواوي
انطلاقًا من الدفاع عن مبدأ السوق الحرّ، تستمر أصوات غربية عديدة في الإعلان عن رفضها لنهج التعامل الحالي مع هواوي وغيرها من شركات صينية مماثلة بإقصائها دون غيرها، أبرزها الاقتصادي الأمريكي المعروف جيفري ساكس، والذي نشر مقالًا في ديسمبر الماضي يصف فيه ما يجري بالحرب الاقتصادية الطائشة، ومعلقًا على حادث اعتقال ابنة رئيس الشركة في كندا باعتباره إعلان حرب على مجتمع رجال الأعمال الصينيين بالنظر لإفلات عشرات من الشركات الغربية من المُساءلة القانونية رغم تعاملات شبيهة مع الاقتصاد الإيراني.
تكمُن خطورة حرب كتلك، أولًا، فيما تمثله من إحياء لقومية اقتصادية غير مسبوقة منذ الحربين العالميتين، وهي قومية أثبتت سابقًا كارثيتها، وثانيًا، فيما يمكن أن تُحدثه من ضرر للشركات الصينية يؤدي في النهاية إلى إشعال موجة قومية داخل الصين تدفع بالنظام هناك إلى اليمين، ومن ثم إلى عدم استقرار النظام العالمي، وثالثًا، في احتمالية خلق عُزلة جزئية للصين بصورة تلغي كل المميزات التي اكتسبها الغرب من إدماج الصين في النظام الرأسمالي قبل ثلاثة عقود، وأخيرًا، في التأثير السلبي المُحتمل على وتيرة التحديث التكنولوجي الجاري في دول فقيرة عديدة بسبب إتاحة التقنيات من جانب الشركات الصينية بأسعار رخيصة، كما أشارت صحيفة الإيكونوميست في عددها الصادر في أغسطس/آب 2012، حيث كانت هواوي بالفعل عاملًا مهمًا لثورة الهواتف المحمولة في إفريقيا خلال العقد الماضي.
من ناحيته، جلس رئيس الشركة “رِن جنغفَي” بهدوء وثقة قبل أسبوعين في لقاء نادر منحه للإعلام الأمريكي، وسخر مما يفعله الغرب مع معدات هواوي؛ قائلًا: «يعتقد البعض في الغرب بأن معدات هواوي تحمل طابعًا أيديولوجيًا، إنه أمر مُضحك يماثل تحطيم بعضهم لآلات النسيج في بادئ الثورة الصناعية اعتقادًا بأنها سببت الاضطراب في العالم»، ومؤكدًا على كون هواوي شركة خاصة، كما أشار بذكاء لخبرة الشركة في توفير شبكات قوية بالأرياف عن طريق تكنولوجيا الميكروويف الزهيدة، والتي لا تهتم بها شركات كثيرة، مقارنة بمد الألياف الضوئية باهظة التكلفة، لا سيما مع تناثر التعداد السكاني في المقاطعات الريفية الأمريكية مثلًا، مؤكدًا أن محطات الجيل الخامس المصنوعة من قبل هواوي لا تحتاج لألياف بصرية؛ ومضيفًا «كيف بإمكانهم الاستمتاع بمشاهدة التلفاز عالي الجودة في المستقبل؟ لو أقصيت هواوي (من تدشين الجيل الخامس) سيكون لزامًا على تلك المقاطعات دفع تكاليف عالية جدًا للتمتع بتلك الخدمة، حينها سيكون الوضع جد مختلف، وقد تطلب تلك البلدان من تلقاء نفسها شراء منتجات الجيل الخامس من هواوي، إننا شركة تركز على المستهلك ومن ثم أعتقد بإمكانية بيعنا معداتنا لهم في المستقبل».
لا تزال هواوي واثقة بما حققته وبصعوبة قلب الطاولة عليها بجرة قلم هنا وهناك، لا سيما وهي الآن أكبر مصنّع لمعدات الاتصالات في العالم. تدعم تلك الثقة إحصائيات قوية، أبرزها تضاعف أرباح تجارة البيع المباشر للمستهلكين خلال العام الماضي متجاوزة سبعين مليار دولار كما صرّح(24) مدير قسم المستهلك بالشركة “ريتشارد يو” قبل أيام، حيث أشار إلى عدم تأثر الشركة بما واجهته من مشاكل في بعض الدول الغربية، مضيفًا أن الشركة ستكشف عن أول هاتف ذكي قابل للطي يعمل بالجيل الخامس الشهر القادم.
تتمتع هواوي حتى الآن بثمار عملها الدؤوب بدءًا من عصر الهواتف الأرضية وحتى الجيل الرابع، إلا أن إقصاء الشركة غير المسبوق من تطوير الجيل الخامس في دول كبرى قد يغيّر مسار ذلك النجاح. سنحتاج للانتظار إذن حتى يدخل العالم بالفعل إلى عصر الجيل الخامس بكل ما يحويه من طفرات، لتتضح حدود وآفاق الحرب الأمريكية على هواوي، خاصة بعد رحيل ترامب خلال عام أو خمسة على الأكثر، ولتتضح كذلك قابلية اتساع و/أو استمرار التضييق عليها في دول كبرى كاليابان وبريطانيا من عدمه. حتى ذلك الحين، تبدو ثقة رِن وريتشارد بمستقبل هواوي في محلها.