مصريات يخلعن عباءة الوظيفة ويؤسسن مشروعات منزلية مربحة
|شيماء عبد الله-القاهرة
“من الصعب أن يستمر الوضع على ما هو عليه”، كل يوم كانت تستيقظ من النوم وتردد داخلها عبارة “الخامسة فجرا”، يعطيها المنبه إشارة الاستيقاظ، لكن ساعتها البيولوجية توقظها قبله بثلاثين دقيقة، لتعد أطفالها للمدرسة وتستكمل مهامها المنزلية، في عجالة تشرب قهوتها سريعا، والجملة تتردد في الخلفية “لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر”.
تذهب لعملها، تقضي الساعات أمام شاشة حاسوبها، وفي الرابعة عصرا تعود بسرعة لمنزلها، تستكمل واجباتها اليومية، تدق الساعة تمام العاشرة مساء، تلقي بجسدها على فراشها وهي تردد “لا يمكن أن أستمر”.
حياة مرهقة
حالة من اللهاث المستمر تعيشها رشا محمدي (34 عاما)، محاسبة في شركة خاصة، لكنها لا تستطيع في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة بمصر اتخاذ قرار بترك العمل، راتبها الشهري الذي لا يستطيع المنزل فقدانه، الزوج يعمل في وظيفة ثابتة بإحدى الهيئات الحكومية، قد يمر يومان دون أن يتبادلا أطراف الحديث مكتفيين برسائل واتساب، في صباح أحد الأيام مرت رشا على بائع كتب في طريقها للعمل، استوقفها عنوان رواية مترجمة “حياتك الثانية تبدأ حين تدرك أن لديك حياة واحدة”.
التحول الوظيفي واستعادة هوايتي
تشابه غريب بينها وبين بطلة القصة، المعاناة ذاتها، الرتابة نفسها، بالنهاية عولجت “كاميلا” بالروتينولوجي، وقررت رشا أن تعالج حياتها عبر التحول الوظيفي أو “Career shift”، تقول “البداية كانت صعبة لأنه لن يقتنع أحد بالفكرة التي قررت تنفيذها، فمنذ صغري وأنا أحب الخياطة، فقررت أن أستعيد هوايتي لتصبح عملي ومستقبلي الجديد، وبالفعل التحقت بدورات تدريبية وبدأت مشروعي الخاص، لم أترك وظيفتي حتى أصبح دخلي أضعاف مرتبي من الوظيفة”.
الخياطة كبديل آمن عن المحاماة
عوامل ومتغيرات عديدة عصفت بالأوضاع الاجتماعية في مصر في أعقاب ثورة يناير 2011، قبلها كانت الوظيفة الثابتة والعمل بالحكومة أو في مكان مرموق بإحدى شركات القطاع الخاص هو المعنى المتفق عليه للنجاح، لكن النظرة تغيرت لدى أسرة المحامية، هند محمد (28 عاما) تقول “قبل أعوام لم تكن أسرتي ستتقبل أن أترك مجال دراستي كمحامية وأتفرغ للعمل على ماكينة خياطة في أتيليه بأحد شوارع الجمالية داخل منطقة شعبية لا تتعامل معي كمصممة أزياء بل كخياطة”.
ستة آلاف جنيه (336 دولارا) هي قيمة ما دفعته هند للحصول على دورات تدريبية في مجال الحياكة وشراء ماكينة خياطة دفعت فيها عشرة آلاف جنيه، لتبدأ مشروعها الخاص بعيدا عن المهنة التي لا تنجح فيها فتاة بلا أنياب مثلها وسط ساحات المحاكم.
في البداية تولت هند حياكة ملابسها الخاصة، ثم تطور الأمر إلى صفحة على موقع فيسبوك، تعرض ما تنتجه، تقول هند “الخياطة ليست هواية بالنسبة لي، لكنها مشروع ناجح حاليا في ظل ارتفاع أسعار الملابس، كثيرات يلجأن لتفصيل الملابس، حياكة فستان وسيلة لكسب دخل أكثر ربحا بكل تأكيد من العمل في المحاكم، وتحمل سخافات البعض”.
الحلم يبدأ في الأربعين أحيانا
إذن كان من السهل أن تأخذ فتاة عشرينية قرار السعي في طريق الشغف المربح وترك الوظيفة المستقرة إلا أن الأمر لا يعدو بهذه السهولة حينما تخوض التجربة امرأة في أوائل الأربعينيات، زوجة وأم لطفلين في مدارس دولية تحيطها الالتزامات المادية والاجتماعية من الجهات الأربع.
تروي هبة صلاح (41 عاما) تجربتها حين قررت ترك وظيفتها مديرة عامة سابقة في كبرى شركات الاتصالات بمصر لتبدأ عملا آخر “خرجت للعمل منذ كنت في الثانوية العامة رغم أنني من أسرة ميسورة الحال، لكن رغبتي الدائمة بإثبات نفسي تقودني دوما نحو تحقيق طموحي، لكنني طوال الوقت كن أشعر بأن ثمة شيئا ينقصني”.
في جلسة بين أصدقائها لمناقشة مستقبلهم الوظيفي إثر الظروف الاقتصادية التي تمر بها الشركة والبلاد أقنعوها بأن طعامها هو أفضل ما تتقنه بعد عملها الشاق، وعليها استثمار موهبتها، لذا قررت اعتزال العمل الإداري واتبعت شغفها في مشروعها الخاص، حتى بعد أن عرضت عليها وظائف أخرى لم تندم على اختياراتها هذه المرة وعادت لمشروع الطهي.
محض صدفة كانت وراء القرار الذي اتخذته هبة، لكنها بخبرة إدارة الأعمال لم تسمح للصدف بأن تسوقها في مشروعها الجديد فاتجهت لدراسة الجدوى وتحديد المستهدفين بالمشروع ودراسة الأصناف التي ستقدمها وكيفية تقديمها، ووضع خطة لطلب المساعدة حين الحاجة، ولكن ما لم تخطط له هو أن تقرر صديقتها المقربة ترك عملها مديرة للموارد البشرية في إحدى الشركات العالمية وتسعى وراء حلم قديم بأعمال “التريكو”.
طفلي أو عملي
للنساء في قانون العمل المصري العديد من الحقوق اللاتي يغفلن عنها، مثل إجازات مدفوعة للولادة، وأخرى لرعاية الطفل لمدة عامين لا يجوز فصلها أثناءها، وتحصل عليها مرتين خلال خدمتها الوظيفية، كذلك هناك ساعة للراحة والرضاعة يوميا تستحقها لمدة عامين بعد الوضع دون أن يخفض الأجر، لكن مثل كثيرات لا ينتبهن لحقوقهن في قانون العمل وجدت الصحفية سيمون سمير نفسها أمام خيارين لا بديل لهما “طفلي أو عملي” فاختارت طفلها ومشروعها الجديد.
لا مزيد من التضحيات
كانت لحظة حاسمة، الصحفية في إحدى الجرائد اليومية بمصر أدركت أن طفلها الذي ائتمنت عليه دار حضانة باهظة الثمن كان عرضة للموت بسبب إهمال إحدى المعاونات، وضعت له الجل المخدر للثة مرات عدة فصار صامتا طوال الوقت، لا يأكل، لا يلعب، حين عرفت الصحفية من كاميرات المراقبة ما يجري أصابها انهيار عصبي، وعلى إثره اعتزلت عملها أياما عدة ثم قررت اعتزاله نهائيا، تقول سيمون “كان يوم ميلاد زوجي، وفاجأته بقراري كهدية له ولأسرتنا بكاملها”.
هدنة قصيرة تطلبها الأمر لتسترد سيمون صحتها النفسية والجسدية، وبعد 15 يوما كانت تبحث عن مقر لمشروعها الجديد “روضة للأطفال”، تقول الأم العشرينية: كان أمامي أفكار عدة، لكني اخترت أن أحافظ على أطفال الآخرين، وأن أضع المعايير التي تمنيت أن تطبق على طفلي ولم أجدها.
لم تزل سيمون في بدايات مشروعها، لكنها حين قررت أن تكون الحضانة موجهة للفئة الاجتماعية الأعلى رفضت أن يتحمل زملاؤها الصحفيون مبلغا ضخما كل شهر نظير استضافة أطفالهم، فأخضعت أطفال الصحفيات لنظام خاص لا يدفعون فيه سوى سعر تكلفة وجودهم بالحضانة دون أي مكسب “أنا أعلم جيدا حجم المعاناة التي تعانيها الأمهات الصحفيات ومررت بها يوما، لذا كان واجبي تجاههم أن أكون أما لأبنائهم وصديقة داعمة لهم”.
رواتب هزيلة وبيئة غير آمنة.. فما الحل؟
أصبح مصطلح “التحول الوظيفي” الخطوة التي تقبل عليها كثير من المصريات للحصول على فرصة للنجاة من سيف تسلط آلة العمل في ظل قانون عمل لا يرفق بالقوارير، ومواعيد عمل صارمة، ورواتب هزيلة، وبيئة عمل غير آمنة للنساء.
في نهاية عام 2017 أعد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء دراسة شاملة عن وضع المرأة في سوق العمل المصري نشرت منتصف عام 2018، وسجلت انخفاضا لنسب مشاركة الإناث عام 2016 عنه عام 2015 بنسبة 1.5%، عام 2010 حصلت المرأة المصرية على نسبتها الأعلى في معدلات التشغيل فوصلت 18%، في حين في 2017 انخفضت معدلات تشغيل الإناث لتصل إلى أقل نسبة 16.9%.
لم تتأثر فقط معدلات تشغيل المرأة بهذا التراجع لكن أثبتت الدراسة الإحصائية انخفاض متوسط الأجر النقدي الأسبوعي للإناث في مقابل الذكور، وارتفعت نسبة مشاركة الذكور في المناصب الإدارية العليا مقابل انخفاض النسبة من النساء.
المصدر : الجزيرة