هل يمكن أن تتبخر الثقوب السوداء؟
|شادي عبد الحافظ
لفهم المشكلة المتعلقة بهذا السؤال يمكن أن نبدأ من كيفية نشوء الثقب الأسود، ولنبدأ من نجم عملاق يتخطى كتلة الشمس بأكثر من ثماني مرات، تقف تلك النجوم مستقرة بين قوتين متضادتين، الأولى هي ثقل مادة النجم نفسه وضغطها على مركزه، والثانية هي القوى الناتجة من الاندماج النووي في مركز هذا النجم، تلك التي تدفع ضد الضغط على المركز فتمنع النجم من الانهيار.
يستمر النجم طوال عمره متزنا بين هاتين القوتين، لكن الهيدروجين وقود النجوم ينضب في مرحلة ما، وهو ما يتسبب في أن يفقد النجم اتزانه وتنتصر قوى الضغط على قوى الاندماج النووي فينهار النجم على ذاته في لحظة بانفجار يسمى المستعر الأعظم (سوبرنوفا) ونكون هنا أمام سيناريوهات ثلاثة، وهي إما أن يتحول النجم بعد انفجاره إلى قزم أبيض أو نجم نيوتروني أو ثقب أسود.
وفي حالة السيناريو الأخير يعتقد العلماء أنه بسبب كتلة النجم الفائقة فإنه لا يمكن لهذا الانهيار أن يتوقف أبدا، فتنكمش مادة النجم شيئا فشيئا لتصبح بحجم نقطة لا أبعاد لها تسمى “التفرد” (singularity)، ووجودها هو أمر غير مؤكد فيزيائيا بعد بسبب ما تطرحه من مشكلات نظرية كارثية تتساءل عن مصير هذه المادة المضغوطة.
الثقوب السوداء تملك جاذبية هائلة لا يستطيع أي شيء النجاة منها حتى الضوء نفسه (رويترز) |
لكن ما نحن متأكدون منه هو أن ما يحدث في مركز الثقوب السوداء يقلص حجم النجم بصورة متطرفة للغاية مع بقاء كتلته، يشبه ذلك أن تقوم بتقليص حجم الكرة الأرضية بالكامل إلى حجم ثمرة ليمون مع بقاء كتلتها كما هي.
ويرفع ذلك قدرات الثقب الأسود على الجذب، بحيث يمكن له سحب أي شيء مهما بلغت سرعته، وحتى الضوء نفسه أسرع شيء في الكون لا يمكن أن يهرب منه، لهذا السبب لا يمكن لنا أن نرى ما يحدث داخل الثقوب السوداء لو حدث وكنا على مسافة قريبة منها لأنها لا تشع أي شيء.
حتى الضوء -الذي يجعلنا نرى الأشياء- ما إن يقترب من حدود المنطقة المحيطة بالثقب الأسود التي تسمى “أفق الحدث” لا يمكن له العودة مجددا، الثقوب السوداء إذن هي طريق سريع لكنه باتجاه واحد فقط ناحية الثقب.
ولهذا السبب اعتقد الوسط العلمي أن جرما سماويا لا يشع أي شيء بل يجذب الأشياء فقط لا يمكن أن يفقد أي كتلة، وبالتالي لا يمكن أن يفنى، وظل ذلك الاعتقاد ثابتا في الوسط البحثي حتى واجه عالم الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكينغ في السبعينيات من القرن الفائت معضلة مرعبة ظن في البداية أنها خلل حسابي في العمل الرياضي الذي يقوم عليه، وهي أن الثقب الأسود يبث جسيمات في صورة إشعاع.
القرص المحيط بالثقب الأسود يسمى أفق الحدث (ناسا) |
إشعاع هوكينغ
لفهم ذلك نشير إلى أن الباحثين اكتشفوا أن الفراغ ما هو إلا بحر هائج من الجسيمات الافتراضية التي تتولد في صورة أزواج (موجبة وسالبة) ثم يُفني كل منها الآخر في وهلة زمنية قصيرة جدا، لكن مشكلة هوكينغ ظهرت حينما نقترب جدا من الثقب الأسود، تحديدا عند تلك النقطة التي تجاور أفق الحدث تماما.
وهنا يقول هوكينغ إنه في أي مكان بالكون سوف تنشأ الجسيمات المتضادة وتفنى قبل حتى أن نعرف ذلك، لكن أفق الحدث لا يمكن له أن يفلت أي شيء مهما كان صغيرا أو سريعا، لذلك فإنه حينما تتولد جسيمات الفراغ على حدود الثقب الأسود لا يُفني أحدها الآخر، بل يدخل أحدها إلى الثقب الأسود وينطلق الآخر في الفضاء.
وحينما يحدث ذلك ولكي تظل قوانين الفيزياء محفوظة فإن الجسيمات التي تدخل إلى الثقب الأسود تنتقص من كتلته، وبالتالي يتقلص شيئا فشيئا حتى يتبخر تماما، أما الجسيمات التي تنطلق للخارج فتصنع ما نعرفه الآن باسم “إشعاع هوكينغ”.
فكرة هوكينغ السعيدة
كانت فكرة هوكينغ ثورية، وعلى الرغم من أنها أجابت عن العديد من المشكلات التي واجهت الفيزيائيين النظريين وقتها فإنها فتحت الباب لمشكلات أخرى ما زالت إلى الآن مركز انطلاق علم الكونيات المعاصر.
وعلى الرغم من ذلك لم نتمكن إلى الآن بأي طريقة من رصد إشعاع هوكينغ، ليس لأنه غير موجود، بل لأنه يتناسب عكسيا مع كتلة الثقب الأسود، مما يعني أن الثقوب السوداء العملاقة سوف تتبخر ببطء شديد جدا بحيث لا يمكن ملاحظة إشعاعها.
تصور هوكينغ في السنوات الأخيرة قبل وفاته أن تجارب الطاقات العالية في مصادمات الجسيمات كالمصادم الهادروني الكبير في سويسرا يمكن أن تساعده على اختبار نظريته عبر اكتشاف ثقوب سوداء ميكروية الحجم تتبخر في زمن قصير جدا لكن يمكن رصد أثرها، ولم يحدث ذلك بعد.
أما مؤخرا فقد اكتشف العلماء أن “أفق الحدث” ليس فقط حدا للثقب الأسود، بل هو مفهوم فيزيائي أكثر عمومية يمكن أن ينطبق على بعض الظواهر التي تمت محاصرتها في ظروف قاسية للغاية، وفي تلك الأثناء تخرج الأمور عن السيطرة.
أكبر من مجرد إشعاع
على سبيل المثال، في دراسة نشرت في دورية نيتشر فقط قبل سنوات عدة تمكن باحثون من استخدام موجات الصوت لإيجاد ظاهرة مكافئة للثقب الأسود عبر إطلاقها في سحابة من الروبيديوم في درجات حرارة قاسية البرودة (-273 مئوية).
وفي درجة الحرارة تلك لا يمكن لموجات الصوت أن تسري بأسرع من نصف ملليمتر في الثانية الواحدة، هنا يقوم الباحثون عبر شعاع ليزر بدفع ذرات الروبيديوم بأسرع من تلك السرعة، ويتسبب ذلك في اضطراب حاد للموجات الصوتية في الفراغ المحيط بذرات الروبيديوم يشبه ذلك الذي يحدث عند أفق الحدث.
في تلك النقطة تظهر دفقات من موجات الصوت المضغوطة والمتكافئة من الفراغ المحيط بالروبيديوم تنجذب بعضها إليه وتنطلق الأخرى للفراغ، تلك الموجات تحاكي إشعاع هوكينغ.
وفي دراسة نشرت فقط قبل أيام عدة في الدورية الشهيرة “فيزيكس ريفيو لترز” تمكن مجموعة من الباحثين من محاكاة إشعاع هوكينغ بطريقة شبيهة عبر دفع مجموعتين مختلفتين في اللون من حزم الليزر السريعة عبر ليفة ضوئية.
وحينما تتداخل المجموعتان معا يتسبب ذلك في تغير “معامل الانكسار” الخاص بتلك الليفة الضوئية، مما يدفع بدوره بعض الإشعاع خارجا والآخر للداخل، في محاكاه لإشعاع هوكينغ.
ويحاول هذا النوع من التجارب أن يثبت أن “إشعاع هوكينغ” و”أفق الحدث” مفهومان لا يتعلقان فقط بالثقوب السوداء إنما ظاهرتان تحدثان حينما يتم حصر كيان فيزيائي ما في ظروف ضغط قاسية كتلك التي تحدث على أفق الثقب الأسود بالفعل.
لكن ذلك للأسف لا يمكن له أن يؤكد بصورة كاملة على وجود إشعاع هوكينغ، حيث يحتاج الأمر للمزيد من البحث والابتكار كي نتأكد مباشرة من فرضية هوكينغ الأكثر ثورية التي تقول إن الثقوب السوداء أقوى الأشياء في الكون وأكثرها رعبا تتبخر مثل قطعة ثلج.
المصدر : الجزيرة