سرطان الدم والاحتلال يفصلان الطفلة “ميس” عن أهلها
|فادي العصا-بيت لحم
لا ترفع الطفلة ميس رأسها لأي أحد يكلمها، تنظر لوقت طويل إلى الإبرة المثبتة في يدها، واضح شعورها بالملل والحزن، وهي على سرير الشفاء بغرفة معزولة في المستشفى تعالج من مرض سرطان الدم بلا أم أو أب، أو حتى قريب من الدرجة الأولى.
لا تتوقف ميس وليد الوحيدي ذات السبع سنوات عن سؤال الأطباء والممرضين عن موعد مجيء والدتها من منطقة تل الهوى في غزة، لتؤنسها برحلة علاجها بقسم “هدى المصري لأورام الأطفال” في مستشفى بيت جالا الحكومي غرب بيت لحم جنوب الضفة الغربية، بعد رفض الاحتلال إلا لامرأة مسنة بمرافقتها هي ابنة أخت جدتها.
حنين وحيرة
بصوت يمتزج فيه حنين إلى اللقاء بألم الفراق، تتصل والدتها بمرافقتها المسنة بين فترة وأخرى، للتحدث مع ميس والرفع من معنوياتها، والدعاء لله أن تستطيع رؤيتها ومرافقتها، أو أملا في أن تنتهي مدة علاجها بسرعة حتى تعود إلى منزلها بين شقيقاتها الخمس وشقيقها الصغير.
يدخل الطبيب أحمد أبو شرخ بشكل شبه يومي على ميس مازحا ضاحكا، يحاول بشتى الطرق أن يخرجها من حالتها النفسية السيئة، وأن يجيب عن سؤالها الدائم عن والدتها وعن موعد عودتها للمنزل.
طبيبها يمازحها (الجزيرة) |
ويقول الدكتور أبو شرخ للجزيرة نت: كيف لنا الإجابة عن سؤال “جيبولي (أحضروا لي) أمي” أو “متى ستأتي أمي؟” مما يُدخل الأطباء والممرضين أيضا في ضغط نفسي “لأننا نعلم أننا لا نستطيع إحضار والدتها الممنوعة من الخروج من غزة والدخول إلى الضفة الغربية من سلطة الاحتلال. كما أننا نعلم جيدا أن ميس هي في أشد الحاجة إلى والدتها” لتكون معها في هذه الظروف الصحية والنفسية شديدة الصعوبة.
علاج طويل الأمد
ويصف الدكتور أبو شرخ حالة ميس بأنها صعبة نوعا ما، فهي مريضة بسرطان الدم الليمفاوي، ووصلت إلى بيت لحم قادمة من غزة مع بداية ديسمبر/كانون الأول الجاري، وحالتها مهددة.
وللتخفيف من شدة الوحدة ووطأتها على قلب الفتاة الصغيرة، يقوم الفريق الطبي منذ الصباح وقبل كل شيء باللعب معها والتفاعل والترفيه، أو بإحضار مهرجين وراويين للقصص، أو مدرسين توفرهم جمعيات مختصة. ثم يتم الانتقال إلى مرحلة العلاج وأخذ خزعات الدم بالإبر بشكل يومي.
وتحتاج ميس في المرحلة الأولى إلى 33 يوما من الجرعات الكيميائية، وإلى متابعة طبية حثيثة -كما يقول الطبيب- نظرا لهبوط المناعة في جسمها إلى الصفر تقريبا خلال هذه المرحلة، لذا هي بحاجة إلى غرفة معزولة تماما، قبل الانتقال في العلاج إلى المرحلة الثانية، وعمل فحص للنخاع وجرعات كيميائية أخرى تستمر لثلاثين يوما أخرى يجب أن تكون خلالها في المستشفى.
في المرحلة الثالثة يمكنها أن تعود إلى المنزل، ولكن وبسبب أنها قادمة من غزة فيفضل أن تبقى في بيت لحم، على أن تقوم بعض الجمعيات المختصة بتوفير منزل قريب كي تأخذ الجرعات العلاجية وتعود إليه، وتخرج من جو المستشفى، وتستمر كذلك حتى تكمل المرحلة الثالثة والرابعة من العلاج التي تستمر لشهرين آخرين تقريبا.
مرافق مريض
ويصف الطبيب المعالج لميس مرافقي الأطفال المرضى القادمين من غزة بأنهم كبار في السن، وغالبيتهم مرضى أصلا يعانون من الضغط وارتفاع السكر في الدم، وهم أصلا بحاجة إلى علاج ومتابعة صحية، ولكن يمنع الاحتلال أحدا من مرافقة المريض إلا بالفحص الأمني.
تقول أم محمد الوحيدي، وهي ابنة شقيقة جدة ميس (قريبتها من الدرجة الرابعة) إنها تلقت رسالة من سلطة الاحتلال على هاتفها النقال فجرا، بأنه يسمح لها فقط بمرافقة ميس في ذات اليوم صباحا، بعد رفض الاحتلال لأمها وعمتها وخالتها. فالاحتلال يريد شخصا يزيد في عمره على خمسين عاما، وبملف أمني يصفه بأنه جيد.
قالت أم محمد للجزيرة نت إن أهل ميس وضعوا اسمها لمرافقتها لأنها قدمت إلى الضفة الغربية ثلاث مرات سابقا لمرافقة مرضى آخرين، إحداهم جدة ميس، وحتى لا تضيع فرصة علاج ميس في الضفة بعد عدم توفر العلاج اللازم لها في مستشفيات غزة بسبب الحصار المفروض عليه من الاحتلال.
ولا تغادر المرأة المسنة غرفة العلاج لأن ميس في فترة علاجها الأولى تكون بمناعة منخفضة، فالوقت طويل جدا، فقط بالتلفاز والتحدث بين فترة وأخرى معها أو بالنوم، فالمكان أقرب ما يكون للسجن، لأن مرافقة المريض بحد ذاتها تجلب المرض.
ولم تكن ميس الحالة الوحيدة بالمستشفى، فطفلة أخرى تبلغ أربع سنوات في غرفة مقابلة لها قادمة من غزة مع جدتها المسنة، بحاجة لعلاج مماثل من مرض سرطان الدم، ويمنع الاحتلال أحدا غيرها من مرافقتها، وهي بحاجة أيضا إلى أيام وشهور من العلاج تبدو سريعة المرور، لكنها تُحسب باللحظة على أمهات وآباء هؤلاء الأطفال.
المصدر : الجزيرة