حبيب التونسي ومركب الموت الذي أعاده للحياة
|بدرالدين الوهيبي-تونس
يرصف البضائع داخل محله في مدينة منزل بورقيبة مسقط رأسه بمحافظة بنزرت شمالي تونس، محاولا في الوقت ذاته ترتيب ذاكرة وصور تعود لأكثر من عشر سنين، لا يزال يحفظ الوجوه والأسماء وأصوات استغاثة في تلك الليلة دون مجيب.
ظاهرة الهجرة السرية على مراكب الموت ليست بجديدة على الشباب المغاربي والأفريقي بصفة عامة، تجلب إليها أكثر مما تستوعب من أحلام أناس رأوا الخلاص في التسلل لأوروبا عبر تسلق أسوار البحر التي ما فتئت تصدهم وتحولهم إلى ولائم تزف يوميا لأسماك البحر المتوسط.
يقول حبيب إن طموحه الذي يرزح تحت وطأة الفقر وانعدام الأفق رفض الانصياع للواقع أو حتى محاولة تغييره بالإمكانيات المتاحة في ذلك الوقت، يزيد من تأجيج هذا الشعور بالغبن موسمُ عودة المهاجرين في الصيف وقصصٌ عن جنة لا تفصله عنها إلا الأمواج.
حبيب بمحله في مدينة منزل بورقيبة يستذكر اللحظات الصعبة التي عاشها (الجزيرة نت) |
بداية الرحلة
يتذكر كيف لاح له في أفق أزمته الوجودية ذلك الشاب الذي أسرّ له بوجود فرصة للهجرة على متن رحلة سرية مضمونة النتائج، لتتحول في نفس حبيب إلى حلم وفرصة سعى دون تفكير لتحقيقها بكل السبل.
شهر محموم من العمل والمشقة ختمه حبيب بشراء حقيبة ظهر جمع فيها بعضا من ملابسه وصورة لأمه، وحشر في ذاكراته واقعا صعبا ليكون -حسب قوله- حافزا على العمل والكد في إيطاليا علّه يغيّره في أقرب الآجال، فلا مستحيل في تلك البلاد حسب ما قيل له.
أولى المحطات كانت في مخيم سري في مدينة قرنبالية بمحافظة نابل، أقرب نقطة مطلة على السواحل الإيطالية، هو عبارة عن بستان خلفي لمنزل أحد أباطرة تهريب البشر في تلك الأيام يعرف بكنية “الحاج”، ذاع صيته من فراغ في أوساط الشباب المتلهف للهجرة.
يصف حبيب ظروف التخييم في انتظار انطلاق رحلة الموت بأنها ظروف لا إنسانية، أفارقة بينهم مغاربيون شباب وشابات يبيتون في العراء تحت الأشجار، الحاج وعصابته يتكفلون بالمؤونة وفرض نظام حياتي بالقوة كي لا يفتضح أمرهم.
يسترجع الأسماء والوجوه التي ألفها طيلة شهر في مخيم الموت، قصص تروي آلاما لا تطاق، “شباب ميت فوق الأرض”، حسب تعبيره، بطالة وفقر وطفولات مزقتها ظروف اجتماعية وعائلية صعبة، لا يستثني أيضا وجود فارين من العدالة بينهم، وهو ما أقض مضجعه.
طيلة شهر من الانتظار رأى حبيب العشرات يحلّون بالمخيم ويغادرون بعد إعطائهم الحاج مبلغا من المال تاركين خلفهم المخيم يضج أحلاما وأوهاما، في بعض الأحيان وتحت ضغط الترقب يتحول البستان إلى ساحة معركة يخمدها أعوان الحاج بطريقتهم الخاصة.
حبيب التونسي وصف ظروف المخيم الذي تنطلق منه الرحلات للبحر بأنها لا إنسانية (الجزيرة نت) |
غرق المركب
يوم الرحلة نقلوا في شاحنات معدة للحيوانات إلى مدينة الهوارية، ثم أجبروا على السير لمدة ست ساعات في الغابات المتاخمة للشاطئ، هي مسيرة الموت بالمعنى الحقيقي للكلمة، ينساقون كالأنعام خلف دليل قبض ثمن إيصالهم إلى مكان رسو المركب، إلى بداية النهاية.
يصف حبيب المشهد بعد أن رمي بهم داخل المركب بأنه مشهد رهيب، يجثم الخوف لأول مرة على الصدور التي حبست أنفاسها، لم يكن الصمت فقط لعدم افتضاح أمر الرحلة، بل كانت لحظة الحقيقة التي لم يعد فيها مجال للتراجع، وقضي الأمر الذي فيه يستفتون.
تتراص الأجساد والأحلام في المركب، لا تسمع في الظلمة التي لفّت المكان سوى همسات الشباب من حين لآخر، تؤنسهم شعلات سجائر تضيء وجوها تقطر ضياعا وأملا في الوصول إلى بر الأمان، تمر الساعات والأميال في عد تنازلي سريع للقاء “الجحيم”.
يسكت حبيب، يغالب عبرة تداركها بصعوبة، وكأنّه يعيش مرة أخرى شعوره بالمياه تغمر قدميه، كأنه يسمع أصوات رفاقه بدأت تتعالى لتستفسر الربان عن سبب تسرب المياه إلى المركب. مع سكوت المحرك بدأ التململ وعبارات حيرة سرعان ما تحولت إلى فوضى.
يقول إن حالة من الذهول انتابته خاصة عندما طلب منهم الربان محاولة تفريغ المياه من المركب، زادها تعقيدا عدم نجاحه في إعادة تشغيل المحرك، بدت قسمات وجه الربان شحيحة رغم أن عينيه تنبئان بقدوم الكارثة لا محالة.
لاجئون بعد إنقاذهم من قبل حرس السواحل التونسي بعد أن كان مركبهم في طريقه من ليبيا إلى إيطاليا (الفرنسية/غيتي) |
بكاء وعويل
يستفيق من ذهوله على صوت قفز الربان وهروبه بسترة النجاة الوحيدة، رغم نداءات الاستعطاف إلا أنه لم يلتفت وراءه، يسألنا باستنكار “هل رأيتم ميتا يندب حظه؟”، كانت تلك حال الجميع، بكاء وعويل وصفع للوجوه علها تستوعب الآتي المؤلم، هنالك من عجزت أقدامه عن حمله من هول الصدمة.
مع بداية غرق المركب، قرّر حبيب القفز في المياه محاولا قدر الإمكان الابتعاد عن المركب كي لا يسحبه إلى الأعماق، قرار لم يفلح الكثيرون في اتخاذه، مما جعل العشرات يهوون إلى قاع البحر وتهوي معهم أمال وأحلام إلى العدم في مشهد مريع لا يوصف.
يقول حبيب والألم يعتصر ذاكرته، إنه شاهد شبابا ممن عرفهم يحاولون التمسك ببعضهم في محاولات يائسة للبقاء على قيد الحياة، غير أن البحر كان له رأي آخر، فقد ضمهم إلى أعماقه بقوة، فاتخذوا سبيلهم إلى الأعماق سربا.
مشهد صراع المرأة الحامل، أخ يحاول إنقاذ أخته باكيا بحرقة لا توصف فيغرقان معا، كافح حبيب طيلة الليل ويأس قاتل يعتصره، يتذكر ذلك الشاب الذي رافقه طيلة صراع البقاء، كيف كانا يشجعان بعضهما على الصمود في انتظار مركب إنقاذ ربما لا يأتي، خارت القوى واستسلم الرفيق لنداء القبر الأزرق، عندها بكى حبيب وحيدا منتظرا دوره.
يصف جسده جراء البرد والملح، يقول “تحوّل لون جسمي إلى الأبيض الناصع، كأنّ البحر أراد أن يكفّنني قبل أن يميتني، بين الفينة والأخرى أحس بقضمات الأسماك كأنها تتذوق طعم لحمي في انتظار أن تسكن أطرافي عن الحركة كما السكون الذي يحيطني”.
بطلوع الشمس لم يكن في جسده قوة تكفي لإطلاق صيحة استغاثة تلفت انتباه الطائرة العمودية التي حلّقت فوقه، يقول إنه كان يتشهّد قبل أن يرخي يديه ليغوص في الأعماق عندما لاح له مركب إنقاذ يتجه نحوه وسط الجثث التي طفت على السطح لتدل على مكانه.
ميلاد جديد
انتهت رحلة وبدأت أخرى، بعد هذه الحادثة بدأت تتشكل ملامح شخص جديد، يقول حبيب إنه اعتزل الناس والمجتمع لأشهر، لم يستطع عقله في البداية استيعاب كونه لا يزال على قيد الحياة، لكنه فهم في النهاية أن أشياء جميلة تنتظره كانت وراء لفظ البحر له.
عاد إلى نقطة الانطلاق نفسها بروح أكثر إصرارا على النجاح، بنظرة أكثر واقعية بعيدة عن أوهام الفردوس الأوروبي البعيد، أسّس تجارة وعائلة صغيرة، بل أكثر من ذلك أسّس قارب نجاة ركبه العديد من شباب مدينته الذين احتذوا به ربما دون أن يعلم.
المصدر : الجزيرة