قرية “البتران”.. شواهد حرب دونتها أطراف العراقيين

مروان الجبوري-البصرة

يبدأ علي كاظم يومه مع ساعات الصباح الأولى، يجمع أشياءه الرثة وبضاعته المتواضعة ويحملها ليفترش بها أرض السوق في قريته الصغيرة الواقعة بمحافظة البصرة (جنوبي العراق) ليبيع للمارة. يقول كاظم إنه لم يجد غير هذا العمل بعد أن فقد ساقه اليمنى جراء انفجار لغم من مخلفات الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).

وبعد مرور عشرة أعوام على هذا الحادث، يبدو كاظم فاقدا للأمل للحصول على ساق اصطناعية، وبالتالي ممارسة عمل يغنيه عن استخدام عكازه الخشبي المتآكل.

تعد قصة كاظم واحدة من مئات القصص التي يزخر بها هذا الجزء من البصرة، وتحديدا في قرية “البتران” أو جرف الملح كما كانت تعرف سابقا.

ولأن لكل شيء من اسمه نصيبا، فإن هذه القرية حملت هذه التسمية نسبة لسكانها الذين بترت أعضاء المئات منهم، أثناء عملهم في محيط منطقتهم التي كانت إحدى ساحات أطول حرب نظامية في القرن العشرين.

وحين تدخل للقرية لأول مرة ربما تتصور أنك في موقع لتصوير فيلم تراجيدي عن ضحايا الحروب، إلا أنك ستفاجأ بأن ما تراه حقيقة، في أكبر تجمع سكاني لمن بترت الحروب ومخلفاتها أطرافهم في العراق.

بدأت القصة أيام الحرب العراقية الإيرانية، حين أصبحت هذه المنطقة التابعة لقضاء شط العرب مقابل الحدود الإيرانية ميدان نزال باعتبارها على خطوط التماس المباشرة بين البلدين، ثم ما لبثت أرضها أن امتلأت ألغاما وقذائف، لم تنزع فتائل معظمها حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

من المخلفات الحربية التي لم تنفجر بعد قرب قرية البتران (الجزيرة نت)

عجز حكومي
ستشاهد هنا وجوها يعلوها البؤس والحرمان، ونساء متشحات بالسواد، وأطفالا يركضون حفاة بلا هدف، في متعة بريئة لم تعرف طفولتهم غيرها، هكذا تمضي الحياة في هذه القرية الصغيرة بطيئة رتيبة للغاية كما يقول سكانها، فما من شيء يدعوهم للتفاؤل وهم يغرقون في بحور المرض والعوز والحرمان.

وبسبب الفقر المدقع الذي يعيشه الأهالي منذ عقود فقد امتهنوا البحث في ركام المنطقة عن بقايا الألومنيوم والنحاس والعلب المعدنية وبقايا الذخائر الحربية، من أجل استخدامها أو بيعها.

التميمي: ما زالت مئات آلاف الألغام والمخلفات الحربية لم تنفجر بعد (الجزيرة نت)

لكن هذه المهنة جرت عليهم الويلات، إذ يقدر عدد الذين فقدوا حياتهم بانفجار ألغام منذ عام 2003 بنحو 70 شخصا، فيما فقد أكثر من 300 شخص واحدا من أطرافه على الأقل، حسب مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة مهدي التميمي.

ويضيف التميمي للجزيرة نت أن هناك العديد من الإصابات في المناطق والقرى المجاورة والمحاذية، حيث ما زال مئات آلاف الألغام والمخلفات الحربية تقبع هناك لم تنفجر بعد، على حد قوله.

وقد استعانت الحكومة العراقية قبل سنوات بجهود شركة دانماركية متخصصة بنزع الألغام وأنجزت الكثير –كما يؤكد التميمي- ثم تحول الملف بعد ذلك إلى “اللجنة الوطنية لإزالة الألغام”، إلا أن نقص الأموال أدى إلى توقف عملها منذ فترة باستثناء جهود متفرقة هنا وهناك.

وسبق أن أعلنت منظمات محلية ودولية عن وجود حوالي 26 مليونا من ألغام وقذائف وذخائر حربية لم تنفجر بعد في العراق، تزايدت أعدادها باطراد بعد الحرب التي شهدتها البلاد عام 2014، وتحظى البصرة بأوفى نصيب من فخاخ الموت هذه. 

شارع في قرية البتران التي تضم أكبر تجمع لمبتوري الأطراف في العراق (الجزيرة نت)

مسلسل الموت
وتبدي السلطات الحكومية عجزها عن وضع حد لمسلسل الموت الذي تحدثه مخلفات الحرب هذه، رغم الوعود المتكررة طيلة السنوات الماضية بقرب تطهير المساحات التي تنتشر فيها بشكل كامل.

لكن المشكلة لا تقتصر على ذلك، فمعظم الضحايا في “البتران” يعانون من غياب رعاية صحية وفرص عمل تناسب إعاقتهم، ويحتاجون إلى مخصصات تغطي احتياجاتهم، والتي تعجز رواتب الرعاية الاجتماعية الحكومية الضئيلة عن تغطيتها.

ويقول عضو مجلس محافظة البصرة محمد المنصوري للجزيرة نت إن كثيرا من السكان هنا يواجهون مشاكل في الحركة، ويحتاجون أطرافا اصطناعية وعلاجا طبيعيا وعمليات لإزالة التشوهات والحروق التي أحدثتها الانفجارات.

ويطالب المنصوري الجانبين العراقي والإيراني بالقيام بجهد مشترك لتطهير المنطقة من الألغام.

ويشير عضو المجلس إلى غياب أي قوانين تخص فئة المعاقين، لذا يعاني السكان الأمرين في سبيل الحصول على لقمة عيشهم، كما أن المؤسسات الصحية لا تقدم لهم أي تسهيلات.

وحسب المنصوري فقد صرفت أموال حكومية طائلة لرفع الألغام لكنها لم تحقق النتيجة المرجوة، مضيفا أنه لا توجد حتى الآن خطة بسبب الأزمة المالية التي تمر بها البلاد واستشراء الفساد في مختلف دوائر الدولة.

المنصوري: صرفت أموال حكومية طائلة لرفع الألغام لكنها لم تحقق النتيجة المرجوة  (الجزيرة نت)

فقدان الأمل
وتخلو القرية من أي إشارات أو علامات تحذير في محيط حقول الألغام، رغم كل الحوادث التي وقعت، مما قد ينذر بمزيد منها.

ولا تقتصر الإصابات على الأطراف بل تتعداها إلى الأعضاء والحواس أيضا، فالحاج رضا محمد يقول إنه فقد بصره قبل سبعة أعوام، حين كان يبحث في أكوام نحاسية بأطراف المنطقة، فانفجرت فيه قنبلة أدت لخسارته كلتا عينيه.

ورغم كثرة مراجعاته لدوائر الصحة ومستشفياتها في البصرة لم يحصل على أي فرصة لعملية جراحية ربما تعيد إليه بصره.

ولا يبدي العجوز الستيني أي تفاؤل بالمستقبل، فوضعه الصحي بات ميؤوسا منه، وهو يجلس عاطلا عن العمل منذ إصابته بانتظار مساعدات يرسلها إليه بعض أقاربه.

“غاية ما يمكن للمصابين هنا الحصول عليه من الدولة عكازات تساعدهم على المشي وبعض الأدوية والعلاجات” كما يقول الحاج رضا ويضيف بحسرة “لكننا نحتاج إلى إعادة تأهيل في كافة النواحي، وتوفير مصادر رزق كريم قبل كل شيء”. 

المصدر : الجزيرة

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *