الديوانية بالكويت.. إرث وسياسة ومآرب أخرى
|نادية الدباس-الكويت
كان جده يعمل سكرتيرا للحكومة (يعادل رئيس الوزراء حاليا) وظل يشغله إبان حكم أربعة أمراء متعاقبين منذ عهد الشيخ مبارك الصباح (مبارك الكبير) وصولا للشيخ أحمد الجابر الصباح، مما جعل ديوانيته واحدة من أهم الديوانيات في البلاد قديما، والتي كانت تحتضنها مناطق شرق والقبلة والمرقاب.
والديوانية غرفة واسعة تشيدها الأسر ميسورة الحال بجوار منزلها، وتمتد على جوانبها الأربعة أرائك للجلوس، لتكون مكانا لاستقبال الضيوف في أي وقت من ليل أو نهار. كما تفتح أبوابها في وقت معلوم مرة أو أكثر أسبوعيا حيث يتصدر الجالسين صاحب الديوانية، ومن ثم يجلس الضيوف عن يمينه وشماله ويناقشون آخر الأخبار والموضوعات بالمجالات كافة.
وما زالت ديوانية الملا صالح الملا تحتفظ ببنائها وأبوابها ونوافذها التي يزيد عمرها على مئة عام، ولم تطلها يد التغيير سوى إصلاحات لبعض أجزائها التي تأثرت بعامل الزمن.
إلى اليمين من المدخل يقبع مكتب جده الذي تشهد حوائطه على اجتماعات مفصلية عقدت داخله، أهمها المفاوضات التي قادها الملا مع الشركات الأجنبية للتنقيب عن النفط بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وأسفرت عن توقيع اتفاق مع شركتين وخبير أميركيين، وهو الحدث الذي غير وجه الكويت.
ديوانية الملا شهدت مفاوضات التنقيب عن النفط ثلاثينيات القرن الماضي (الجزيرة نت) |
برلمان مصغر
لا يكاد الملا الحفيد يفارق الديوانية، بل ويحضر إليها بوتيرة شبه يومية، ويرتبط بها روحيا خاصا على حد وصفه، ويعتبر المَعْلَم الكويتي الخاص المسمى بالديوانية نواة برلمان مصغر. ويوضح للجزيرة نت أن “كل ما حدث هو أن الدستور الذي وضع عام 1962 حول الديوانية إلى مبنى كبير هو مجلس الأمة، وجعل الشعب ينتخب ممثليه من النواب، وجلس هؤلاء النواب ليتداولوا الشأن العام”.
يروي الملا أن حكام الكويت اعتادوا قبل صدور الدستور زيارة مختلف الديوانيات، وكانت قراراتهم تتأثر بالنقاشات التي تدور بين رواد تلك الديوانيات، والتي لم تكن تعوزها الجرأة والشفافية.
كثير من ديوانيات الكويت شهدت حراكات سياسية، كان أبرزها “دواوين الاثنين” وهي اجتماعات كانت تلتئم كل يوم اثنين في ديوانيات مختلفة، وذلك بعد حل مجلس الأمة عام 1986، حيث كانت تطالب بتنظيم انتخابات لإفراز برلمان جديد.
قضايا شتى
وما زال أهل الكويت يتباحثون داخل الديوانية في شؤونهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والرياضية وحتى الفنية، حيث تتميز تلك الديوانيات عن نظيراتها في دول المنطقة بمساحة واسعة من الحرية يستطيع معها الفرد التحدث في جميع الأمور دون قيد أو شرط، واليوم يبلغ عدد الديوانيات المنتشرة في أرجاء البلاد أكثر من خمسة آلاف ديوانية.
ومطلع 2017، أُنشئ اتحاد دواوين الكويت لينضوي اليوم تحت رايته نحو ستمئة ديوانية، جمعها “ميثاق شرف” هدفه -وفق ما قاله رئيس الاتحاد د. جواد المتروك للجزيرة نت- جمع أهل البلاد بجميع أطيافهم وقبائلهم وعائلاتهم من دون تمييز.
ويشترط الاتحاد على الديوانيات الراغبة بالانضمام إليه عدم الخوض في المسائل الانتخابية أو التطرق للشأن السياسي المحلي أو الخارجي، لينفي عن الاتحاد التحزب أو التكتل، كما يتضمن “ميثاق الشرف” أيضا عدم الخوض بالمسائل الدينية أو الطائفية أو القبلية.
تاريخ عريق
ويعود الأصل التاريخي للديوانية إلى النظام القبلي السائد بعدد من دول المنطقة، حيث كان يجري تخصيص ركن خاص في خيامها كمجلس للرجال واستقبال الضيوف، ويتم فيه تداول الأحاديث والأخبار، وحين استعيض بالمنازل عن الخيام انتقل هذا النظام إليها.
يوضح أستاذ التاريخ بجامعة الكويت حمد القحطاني أن الديوانية كانت تضم خليطا من المجتمع، ففيها المثقف وعالم الدين والتاجر والأمي، وكل واحد منهم يدلو بدلوه حين يفتح باب النقاش في كل ما يتعلق بشؤونهم وشؤون المنطقة والعالم، ومن هنا يمكن القول إن الديوانية أوجدت الحريات والديمقراطية فتأثر بها المجتمع، وقننها عبر الدستور والتشريعات.
وبحسب القحطاني، لم يقتصر دور الديوانية على كونها منتدى لإبداء الرأي، فقد لعبت دورا مهما في الترابط الاجتماعي من خلال كونها مقرا للتجمع الدوري، وكثيرا ما يعرف الشخص من خلال الديوانية التي يتردد عليها، حتى إذا ما ذهب خاطبا إحدى الفتيات سأل ذووها عن سيرته بين رواد الديوانية التي يزورها، فضلا عن دور لا يخفى للديوانية في تسهيل عمليات البيع والشراء.
المصدر : الجزيرة