“صانع الحايك” بالقيروان.. يقاوم غزو المنتج الصيني
|ناجح الزغدودي-القيروان
من داخل محله القديم قبالة جامع “ثلاثة أبواب” في مدينة القيروان العتيقة وسط تونس، ينبعث إيقاع منتظم أشبه بإيقاع آلات موسيقية، يقطع صمت سوق “الجرابة” ويهز سكون المحلات المغلقة ليعلن عن تواصل إيقاع الحياة في سوق الحرف التقليدية التي بدأت تفقد بعضا من خصوصياتها وحرفييها.
منتصب القامة خلف منسجه الذي توارثه حرفيون قبله أبا عن جد منذ قرون، يواصل محمد الجهيناوي (76 عاما) حركات القدمين نفسها ويداه على منسج الحايك تداعبان خيوط القطن الرفيعة، وهو الذي تعلم ذلك منذ عقود ولم يتغير منه سوى تقوس ظهره وبياض شعره وتجاعيد تؤرخ رسومها لعقود من الكفاح. وحيدا في محله المسكون بالتاريخ، لا يجد من يؤنسه سوى صوت المذياع وذكريات تختزنها أدوات العمل العتية.
رغم تقدمه في السن وقضائه أكثر من ستين عاما في المهنة، فإن حركات الشيخ لا تزال متناسقة الإيقاع على أجزاء النول الخشبي الذي لم تتغير مكوناته الأولى، فيتحكم فيها كأنه ضابط إيقاع.
حركة الساقين واليدين ولمسات الخيط الرفيع لا تخطئ مكانها، كأنه لا يزال في ريعان شبابه، وينتهي يوم العمل بتحويل كرات الخيط إلى لفافة قماش متقن الصنعة أشبه بتحفة فنية.
تحديات
لم تندثر صناعة الحايك الذي لا يزال من الملابس التقليدية التي تشتهر بها مدينة القيروان -وهو لحاف سميك يصنع يدويا من خيوط القطن يغطي سائر جسم المرأة ولا يظهر سوى عينيها- ولكن تراجع الإقبال عليه وضعف ترويجه وضعا حرفة “الحايك” في أزمة اقتصادية، زادتها المصنوعات المهربة من الصين وغياب الدعم والترويج الحكومي سوءا.
في هذا المحل العتيق تعلم الشيخ محمد الجهيناوي صناعة الحايك بطريقة يدوية. بدأ التعلم طفلا وهو طالب بالمرحلة الابتدائية، ثم عندما غادر المدرسة أصبح حرفيا مستقلا في محله، وارثا النول القديم وقيما مهنية أخرى أهمها القناعة والصبر والعزيمة لمواصلة صناعة الحايك ذات الدخل المالي الشحيح.
ضعف الدخل لم يفت في عزيمة الشيخ الجهيناوي ولا في حفاظه على نسق عمله اليومي الذي يبدأ بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس، تتخلله راحة بين الظهر والعصر. ولم تجذبه إغراءات المنسوجات المصنعة المستوردة ليجعل محل صناعة الحايك إلى متجر للمصنوعات الصينية مثل غيره.
“حافظت على صناعة الحايك رغم تراجع الإقبال وضعف الأرباح، وطورت الصنعة لتتلاءم مع احتياجات العائلات العصرية لئلا تندثر صنعة الأجداد”، كانت تلك خطة السيد الجهيناوي في مواجهة الصعوبات وأهمها تراجع لباس النساء القيروانيات للحايك مقارنة بالسنوات الماضية، عندما كان ارتداؤه رمزا للمرأة القيروانية المحافظة على تقاليد اللباس والاحتشام.
أدرج الحرفيون نسيج الحايك اليدوي في تصميم ملابس عصرية للنساء أو أثاث وأغطية تجمع بين روح الماضي وتصاميم المعاصر، وفي المقابل أصبح لباس النساء للحاف الحايك مقتصرا على مناسبات الزواج وعقد القران.
ربح ضعيف
ورغم أنه علّم أولاده حرفته التي حافظ عليها لعقود، فإن الشيخ محمد لم ينصحهم بمواصلة هذه الصناعة لقلة هامش الربح مقابل المتاعب، فهو بالكاد يحصل آخر اليوم على ربح لا يتجاوز ثمانية دنانير (ثلاثة دولارات).
“عدد قليل من الحرفيين الذين حافظوا على الصناعات التقليدية مثل الحائك والزربية والأغطية الصوفية والجلد بسبب ارتفاع أسعار التكلفة من جهة وغياب الدعم الحكومي“، هذا مطلب الشيخ الذي يعبر عنه بنبرة لوم لا تخلو من الشجن.
لا يحصل الحرفيون على دعم مالي ولا على تمويل لتوسيع المشروع، نظرا لأن الصناعات التقليدية لا تعتبر استثمارا مربحا في نظر البنوك الممولة، وتقتصر على منح مالية لا تتجاوز الألف دينار (ثلاثمئة دولار).
وحرم ضعف القدرات المالية الشيخ الجهيناوي وغيره من حرفيي الحايك من التفكير في تسويق مصنوعاتهم في الخارج، رغم ما تلقاه الصناعات التقليدية اليدوية من رواج بفضل قيمتها التراثية والصحية وموادها الطبيعية غير الصناعية، وهو ما جعل الحرفيين لا يفكرون سوى في إنتاج كميات من القماش في حدود احتياجات السوق المحلية بمدينة القيروان التي ينشط فيها حرفيون من النساء والرجال.
الظروف نفسها أجبرت الحائك الجهيناوي على العمل وحيدا دون مساعد أو “صانع”، نظرا لضعف الربح الذي لا يتجاوز ثلاثة دنانير (دولار واحد)، وهي أجرة زهيدة لا تقنع أي إنسان على تعلم الحرفة.
يسترق الشيخ بعض الوقت من يوم عمله لينفض الغبار عن المصحف المعلق فوق رف خشبي عتيق قبالة منسج متهالك مهمل، ينتظر من ينفض عنه الغبار وينعش صناعة الحايك ويضخ دماء جديدة في شرايين سوق الجرابة العتيق الذي يوشك أن يفقد ميزته التقليدية مع فقدان شيوخ الحرف وانهيار حصون الصناعات التقليدية التي ينشط فيها قرابة 28 ألف حرفي بمحافظة القيروان.
المصدر : الجزيرة