الجامية المدخلية.. الدين في خدمة الثورات المضادة ومحمد بن سلمان
|اكتسبت عائلة آل سعود شرعية الحكم من التحالف الذي أقامه أمير الدرعية محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1745، والذي سمي بميثاق الدرعية، ونص على الدعم السياسي للشيخ في دعوته الدينية مقابل انضواء مشروعه تحت سلطة الدولة السعودية.
وعندما أعاد عبد العزيز آل سعود تأسيس الدولة السعودية (الثالثة) في مطلع القرن العشرين، انطلق لتوحيد مملكته مترامية الأطراف تحت سلطته عبر مسارين متوازيين: الأول الدعم الإنجليزي –والأميركي لاحقا- والثاني هو الشرعية الدينية المؤسسة على ميثاق الدرعية نفسه، وارتهن استمرار حكم العائلة بموازنتها بين هذين الجناحين المتناقضين.
طرأت لاحقا مراحل شد وجذب بين الجانبين، وكانت الغلبة في عهد الملك فهد بن عبد العزيز خلال الثمانينيات لحركة “الصحوة الإسلامية” التي قادها علماء من خارج المؤسسة الدينية الرسمية، مثل سلمان العودة وسفر الحوالي وعائض القرني وعوض القرني وناصر العمر، وعندما اندلعت حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات، احتج هؤلاء على التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، بعكس المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في هيئة كبار العلماء، وعلى رأسها عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين وصالح الفوزان.
أستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية ربيع المدخلي (مواقع التواصل) |
لكن تيار “سلفية المدينة المنورة” حديث النشأة اتخذ موقفا أكثر موالاة للسلطة، وهو تيار الجامية المدخلية، نسبة إلى أستاذ العقيدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة محمد بن أمان الجامي (أثيوبي توفي عام 1996)، وأستاذ الحديث بالجامعة ربيع بن هادي المدخلي، حيث لم يكتفيا بتأييد دخول القوات الأجنبية، بل هاجما كل من يعارض الحكومة أو يدعوها للإصلاح، لتسارع السلطة إلى احتضان التيار.
ويقول أستاذ العلوم السياسية الفرنسي ستيفان لاكروا في كتابه “زمن الصحوة” إن المدخلية تستند إلى مبدأين رئيسين: أولهما توظيف النصوص الشرعية لتبرير الطاعة المطلقة “لولي الأمر” حتى تصبح المعارضة السلمية خروجا وفتنة، مع إيجاب الطاعة لكل متغلب، فإذا تغلب آخر وجبت طاعته.
والمبدأ الثاني هو الطعن في المخالفين، لا سيما الحركيين، حتى وصل الأمر بشيوخ الجامية المدخلية إلى رفع التقارير الأمنية ضد خصومهم من الدعاة إلى السلطة للتنكيل بهم، وأصبحت كتبهم مستندا شرعيا لحملات الاعتقال.
أبو زيد: الحاكم في عرف هؤلاء مطلق الحكم ومقدس لا يخطئ ولا يُعارَض (الجزيرة) |
تقديس الحاكم
ويرى المفكر الإسلامي المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد أن الجاميين والمداخلة لهم وظيفة تفرغوا لها وهي “تقديم الغطاء للحاكم”، سواء كان علمانيا أو “إسلاميا”، عسكريا أو مدنيا، منتخبا أو جاء إلى السلطة بانقلاب، فهم يدعمونه في مواجهة كل خصومه، خاصة الإسلاميين منهم.
ويضيف للجزيرة نت “هنا تكمن المفارقة؛ فكيف يمكن لتيار ديني تستند جميع مفرداته ومصادره المعرفية إلى التراث السلفي العتيق أن يكون هدفه الأول هو التغطية على أنظمة غير دينية وقمعية ومستبدة؟”
ويتابع أبو زيد أن الحاكم في عرف هؤلاء مطلق الحكم ومقدس لا يخطئ ولا يُعارَض، ومع أن هناك أطيافا من المعارضة في كل مكان فإنهم لا يرون بينها فرقا، فسواء اقتصر المعارض على انتقاد الحاكم بكلمة أو حمل السلاح ضده فكلاهما سواء، ويجب قتلهم تعزيرا أو تقطيع أطرافهم بحد الحرابة.
من جهة أخرى، يرى أستاذ المنهجية والأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بقطر معتز الخطيب أن اعتبار هذا التيار جماعة مخابراتية هو “نوع من الانتقاص”، فالتيار لا يتمتع بأي قدرة تنظيمية لأنه ضد الأحزاب والجماعات، ونشأ في إطار جامعي.
ويضيف للجزيرة نت أن مفردات الجامية تنتمي إلى مواقف تراثية مع أنها تتصل بمسائل سياسية حديثة في ظل الدولة الوطنية، وهم يقومون باختيارات تأويلية مجتزأة، مع أنه لا يمكن إسقاط التاريخ على الواقع الحديث لاختلافات جذرية، خاصة أن الطاعة والخروج يكتسيان مفاهيم ووسائل سلمية، وهي في صلب العمل السياسي اليوم.
التوسع والقمع
بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وجدت الصحوة السعودية نفسها مجددا في قفص الاتهام من قبل تياري الليبرالية والجامية المدخلية على السواء، وانطلقت موجة اعتقالات جديدة، لكن العديد من رموز الصحوة اتخذوا موقفا متوازنا مع السلطة وتبرؤوا من التطرف.
ومع انطلاق الربيع العربي بعد عشر سنوات، منحت السلطات السعودية لدعاة الصحوة هامشا لدعم الثورة السورية دون غيرها، بصفتها واجهة لصد الامتداد الإيراني-الشيعي، لكن دعاة مثل سلمان العودة ومحمد العبد الكريم ومحمد حامد الأحمري استغلوا الفرصة للتنظير للديمقراطية ضمن السياق الإسلامي، فانتقلت السلطة من دعم الثورة السورية إلى تجريمها والتحريض ضد كل من أيد الجهاد فيها، وعادت الجامية المدخلية لمناهضة أي دعوة للإصلاح.
ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم مطلع 2015، ثم تولي نجله محمد بن سلمان بعد عام ونصف العام ولاية العهد ومفاصل السلطة، وُضعت الصحوة في خانة الإرهاب بجانب المتطرفين، وأعلن محمد بن سلمان صراحة “تحرير المجتمع السعودي” من مشروع الصحوة وإعادة السعودية لما كانت عليه قبل ثلاثين عاما، مانحا الجامية المدخلية نفوذا غير مسبوق.
محمد بن سلمان أعلن قبل عام تحرير المجتمع السعودي من مشروع الصحوة (رويترز) |
وهكذا مارس دعاة وعلماء بشكل غير متوقع خطاب الجامية، مع أن بعضهم كان محسوبا على الصحوة التي حاربها هذا التيار، مثل الشيخ عائض القرني الذي اعتقل عندما ندد بالوجود العسكري الأجنبي بداية التسعينيات، ومُنع من النشر عشر سنوات، إلا أنه تحول تدريجيا إلى موالاة السلطة ليرتمي أخيرا في أحضانها، منقلبا على ماضيه ورفاق دربه، وليصف مشروع محمد بن سلمان –خلال لقاء على قناة إم بي سي- بأنه بعث “للدولة السعودية العظمى”.
وعندما شنت السلطة حملة اعتقالات في سبتمبر/أيلول 2017 شملت العودة وغيره، أشاد بها القرني مشاركا عبر تويتر بوسم يتهم هؤلاء العلماء بأنهم “خلايا استخباراتية”، في تكرار صارخ لسلوك الجامية المدخلية.
وبالطريقة نفسها، تحولت صفحة إمام مسجد قباء بالمدينة المنورة صالح المغامسي على تويتر إلى مساحة لتأييد محمد بن سلمان، حتى أصبح ضيفا أثيرا على وسائل الإعلام لإضفاء الشرعية على “الإصلاحات” وقصف اليمن.
لكن أبرز مواقفه الأخيرة كان محاولته غسل يدي محمد بن سلمان من دماء الصحفي جمال خاشقجي، بقياس هذه الجريمة على قتل الصحابي خالد بن الوليد خالد بن نويرة دون إذن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع أن الداعية الشهير محمد العريفي كان معروفا بخطبه الجريئة وتأييده الجهاد في سوريا، مما أدى إلى اعتقاله عام 2014، فإنه فاجأ الملايين من متابعيه على تويتر بتأييد موجة اعتقالات 2017، مع أن العودة الذي كان من ضحاياها سبق أن تضامن مع العريفي إبان اعتقاله، كما لم توفر صفحة العريفي فرصة لتأييد محمد بن سلمان على شاكلة الجاميين والمداخلة.
أما إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس فجعل من منبر المسجد الحرام أداة إعلامية لتأييد محمد بن سلمان، وكان آخر هذه المواقف دفاعه عن ولي العهد السعودي في ظل الاستياء العالمي من مقتل خاشقجي، ليصفه بالشاب “الطموح المحدَّث الملهَم” الذي يقود رؤية تجديدية صائبة رغم التهديدات والضغوط.
وامتدادا لسياسة الإقصاء الأمني الذي عُرف به الجاميون والمداخلة ضد خصومهم، يحمّل البعضُ السديس جزءا من مسؤولية اعتقال زميله صالح آل طالب الذي حرض العلماء والدعاة في إحدى خطبه بالمسجد الحرام على إنكار المنكر والتصدي للطغاة، فالسديس يرأس شؤون الحرمين منذ سبع سنوات.
|
إما معنا أو ضدنا
وتبرز خطورة الخطاب “المدخلي الجامي” في هذه المرحلة بتماهيه مع الإقصاء الذي تمارسه السلطة دون إفساح مجال حتى لمن يرغب في التزام الصمت، وهذا “التطرف” تجلى في تغريدات لمشاهير سعوديين يتهمون بالخيانة كل من لم يصرح بتأييده لولي العهد خلال أزمة مقتل خاشقجي.
وسبق أن أعلنت الإمارات والسعودية والبحرين عقوبات تمثلت في السجن حتى 15 عاما لمن يكتب تعاطفا أو محاباة مع دولة قطر، أو بغرامة تبلغ نصف مليون دولار، فحتى التعاطف مع دولة مسلمة مجاورة بات جريمة، وتيار الجامية لا يتوانى عن التبرير.
ويقول الأكاديمي معتز الخطيب إن السعودية قدمت نموذج “التدين الوهابي” كحركة تبشيرية منذ السبعينيات أثناء الوفرة النفطية، أما مشروع محمد بن سلمان فيريد التخلص من عبء الوهابية، مما يعني أن السعودية الحالية لا تحمل رؤية لأي أيديولوجيا دينية، بل تسعى إلى “تحديث” ظاهري فج وسريع.
ويضيف الخطيب للجزيرة نت أن حملة الاعتقال والتخويف وتراجع “دعاة الإعلام” عن التأثير؛ منح الجامية حضورا أوسع، كما أصبح دعاة مثل القرني والمغامسي، وكذلك ليبراليون مثل تركي الحمد وعبد الله الغذامي، يغردون فقط في طاعة الحاكم والدفاع عنه، في تقاطع واضح مع خطاب الجامية نفسه.
أما الإعلامي المصري عبد الله الشريف فيقول للجزيرة نت إن الإعلام الرسمي في الدول العربية يفرد ساحته لشيوخ الجامية، بينما يحاول هو والناشطون المؤيدون للربيع العربي “فضح هذه الفئة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدا أن الناشطين يحظون فيها بشعبية أكبر بكثير من الجامية، حيث خصص الشريف لنقد هذا التيار عدة حلقات على قناته في يوتيوب وشاهدها الملايين.
الثورات المضادة
منحت السلطة السعودية تيار الجامية منذ نشأته بالتسعينيات نفوذا على الجامعة الإسلامية في المدينة، التي يرتادها طلاب من أنحاء العالم، فانطلق خريجوها لنشر أفكار التيار في بلادهم، وبحسب عبد الله الشريف فإن تلك الخلايا المنتشرة بأنحاء العالم العربي برزت بوضوح بعد الربيع العربي.
ويشير الشريف إلى أن الجامية الليبية كانت تحرم التظاهر أو حتى المناصحة العلنية للزعيم الراحل معمر القذافي، وعندما تولى الثوار السلطة تخلت الجامية عن مبدئها في مؤازرة المتغلب وانحازت إلى اللواء المتقاعد خليفة حفتر داعية الناس إلى حمل السلاح تحت لوائه لمقاتلة الإسلاميين والإخوان المسلمين.
ويضيف الإعلامي المصري للجزيرة نت أن الجامية المصرية التي يتزعمها محمد سعيد رسلان لقيت أيضا دعما كبيرا عندما اكتشفها نظام عبد الفتاح السيسي، مع أن رسلان لم يكن شيخا معروفا في المجتمع.
وفي الجزائر، أثار الشيخ المحسوب على المدخلية محمد علي فركوس أزمة فقهية وفكرية مطلع أبريل/نيسان الماضي، عندما أصدر بيانا يستثني من أهل السنة والجماعة طوائف من بينها “الشيعة الروافض والمُرجِئة والخوارج والصُّوفية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وجماعتا الدعوة والتبليغ والإخوان”، مما دعا بعض الصحفيين للتحذير من عودة أجواء الكراهية التي عرفتها البلاد قبل “العشرية السوداء” الدامية في التسعينيات.
وتداول مغردون مؤخرا منشورات لتيار الجامية الجزائري يطالب بملاحقة كل من ينتقد آل سعود، وقالوا إن التيار في دول المغرب العربي ما زال يتلقى دعمه من السعودية ويقدم لها الولاء.
أما تيار المدخلية الجامية في اليمن فتعود نشأته إلى الشيخ الراحل مقبل الوادعي، ومن بعده يحيى الحجوري وهاني بن بريك وأبو العباس عادل فارع، ومن اللافت أن هؤلاء حرّموا كل مظاهر الاحتجاج السلمية، فضلا عن العنيفة، ضد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إلا أنهم لم يتورعوا عن دعم مشروع الإمارات في بلادهم، بما يشمل الانحياز للحركات الجنوبية الانفصالية، وحتى مناهضة دولة قطر للتوافق مع الإمارات في خصوماتها الخارجية.
المصدر : الجزيرة