تناقضات الأدباء المبدعين.. أن تكون ملاكا أو شيطانا
|من حين لآخر تهب أسئلة على الحياة الثقافية في دول عديدة حول العالم، وتتطرق لإشكاليات لم تجد إجابات قاطعة وواضحة، مثل مسألة تناقضات المبدعين بين الأقوال والأفعال، أو بين المواقف والممارسات والإبداعات.
ومن هنا، تطرح الكاتبة والناقدة الثقافية والمحاضرة في جامعة جولد سميث بلندن نيل ستيفنز السؤال المهم: “هل ينبغي أن نتوقف عن تناول مواقف وتصرفات المبدعين والكتاب والمؤلفين في الحياة العامة، ونركز فقط على إبداعاتهم وكتبهم ومؤلفاتهم؛ باعتبار أن هذه الإبداعات والكتب والمؤلفات هي كل ما يهمنا؟”
وتقول نيل ستيفنز -التي أصدرت كتابا جديدا بعنوان “مسز جاسكيل وأنا”- إن هناك الكثير من المبدعين والكتاب الذين أهدوا البشر في كل مكان ساعات من المتعة الرائقة بإبداعاتهم وكتاباتهم.
غير أن مواقف وآراء بعض هؤلاء المبدعين والكتاب أثارت وتثير استياء أيضا لدى الكثير من البشر، بل وقد تثير الغثيان أحيانا؛ مستشهدة في هذا السياق بنماذج تاريخية وأسماء كبيرة، مثل الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز والروائي الأميركي الراحل جى.دي.سالينجر ومواطنه الروائي جون شتاينبيك، ناهيك عن حالة الكاتب النوبلي في.إس.نايبول، الذي وصفه الكاتب والشاعر سوري الأصل علي أحمد سعيد -الشهير بأدونيس- بأنه “سيد النثر في العالم”.
ونايبول تريندادي المولد وهندي الأصل وبريطاني الجنسية، وتوفي في 11 أغسطس/آب الماضي، وعرف بمواقف وتحيزات تنضح بالكراهية ضد المسلمين والعرب. وتقول نيل ستيفنز إن بعض مواقف وتصريحات إعلامية لصاحب الروايات الرائعة مثل “المحاربون” و”في منعطف النهر” و”الهند.. ألف ثائر وثائر”؛ كانت موضع إدانة حتى من جانب مثقفين في الغرب.
السؤال الأصعب
أما السؤال الصعب والمركب من وجهة نظر هذه المثقفة البريطانية فهو: “هل تكون هذه المواقف والتصريحات سببا لشطب إبداعات حقيقية مثل تلك التي قدمها نايبول؟ ولأي مدى يجوز إطلاق أحكام بناء على الربط بين شخصية المبدع وممارساته في الحياة اليومية وبين إبداعاته؟
نيل ستيفنز لفتت إلى أن هذا السؤال يكتسب المزيد من الصعوبة والتركيب مع كشف النقاب في الأسابيع الأخيرة عن حالات تحرش تورط فيها مبدعون وفنانون، معيدة للأذهان أن مبدعين في حجم وقامة “جي.دي. سالينجر” صاحب رواية “الحارس في حقل الشوفان”، وجون شتاينبيك الحاصل على جائزة نوبل في الأدب؛ طالتهم أيضا -من قبل- اتهامات شنيعة تتعلق بسلوكهم الشخصي وتصرفاتهم مع الآخرين.
منذ خمسينيات القرن العشرين تعرض نزار قباني الذي كان يعمل بالسلك الدبلوماسي في سوريا لمتاعب بسبب قصائده، بلغت حد مطالبة بعض البرلمانيين السوريين بإقصائه من وظيفته الدبلوماسية |
وفضلا عن التحيزات الطافحة بالكراهية للمسلمين والعرب، فإن في.إس.نايبول -الذي توفي عن عمر ناهز 85 عاما، والحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2001- توالت في الآونة الأخيرة شهادات لمقربين منه تؤكد أن شخصيته كانت تحمل الكثير من المثالب ولا تتفق مع إبداعاته.
بينما تشير الكاتبة والناقدة نيل ستيفنز إلى أنه كان يتعامل مع النساء بصورة تتنافى مع السوية الإنسانية، ولا يمكن إلا أن تقض مضاجع المدافعات عن حقوق النساء مثل “مسز جاسكيل” التي اختارتها عنوانا لكتابها الجديد، وهي رائدة من رائدات الدفاع عن حقوق المرأة البريطانية.
أما تشارلز ديكنز، الذي ولد عام 1812 وتوفي عام 1870، يتفق نقاد الأدب على أنه أحد أعظم الروائيين على مستوى العالم، وما زالت روائعه الروائية مثل “أوقات عصيبة” و”قصة مدينتين”، تحظى بمعدلات قراءة عالية؛ فقد عرف كما تقول نيل ستيفنز بمواقفه العنصرية الفجة وتحامله المتحيز بشدة ضد النساء، كما عُرف بروح استعمارية بغيضة مع نزعة دموية ضد شعوب خضعت للاحتلال البريطاني، مثل الهنود.
وتبدو نيل ستيفنز أقرب للرأي القائل بعدم إمكانية الفصل بين مواقف وتصرفات وممارسات المبدعين وبين إبداعاتهم، وإن كانت تقر بأن هذا الرأي ينطوي على إشكاليات متعددة وتعقيدات كثيرة، كما أنه قد يظلم الإبداع كإبداع.
ومن الذي ينسى أن المبدع والشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند -الذي توفي عام 1972 عن عمر ناهز 87 عاما، وكتب أجمل قصائد الحب- كان مغرما بالفاشية والنازية، وهو الذي أدرجته نيل ستيفنز ضمن قائمة طويلة لمبدعين تتناقض مواقفهم وممارساتهم في الحياة مع إبداعاتهم.
وقد يصل الأمر لحد استنكار البعض إقامة تماثيل أو احتفالات تذكارية لأسماء مبدعين، والمطالبة بهدم تماثيلهم والكف عن الاحتفال بهم؛ “لأنهم دمروا سعادة أشخاص آخرين ألقت بهم المقادير ليجدوا أنفسهم وجها لوجه مع تلك الشخصيات التي توهج إبداعها مقابل تناقضات وتصرفات وممارسات كانت شنيعة أحيانا”.
الإبداع والانتماءات
والتساؤلات حول معنى الإبداع وعلاقته بالانتماءات السياسية أو الأهواء والمصالح مطروحة في ثقافات ومناطق متعددة حول العالم، ومن بينها منطقتنا العربية، في حين يتحدث البعض عن “الشللية” بوصفها ظاهرة تفضي إلى تراجع الدور الثقافي في بعض الدول، “كما تترتب عليها نتائج خطيرة في اختفاء رموز حقيقية للإبداع أو صعود أسماء لا تستحق”.
ولأن المسألة معقدة وحافلة بظلال كثيرة وإشكاليات متعددة، خاصة إن فرضت التصنيفات والتوجهات السياسية والأحكام القيمية القاطعة نفسها، كما قالت الكاتبة والناقدة والأكاديمية نيل ستيفنز فإن احتمالات ظلم المبدع والإنسان معا واردة؛ كما حدث مع نزار قباني الذي توفي في الثلاثين من أبريل/نيسان 1998 عن عمر ناهز 75 عاما.
فمع أن هذا الشاعر السوري كان في الواقع أحد أهم المبدعين العرب الذين شخصوا عيوب الشخصية العربية ومثالبها، بقدر ما أثرى وجدان قارئ أشعاره، فإنه تعرض على مدى رحلته الإبداعية الطويلة لهجمات من تيارات شتى، بعضها كانت لأسباب سياسية، وإن تخفت وراء مقولات مبتسرة، مثل اتهام هذا الشاعر “بالإباحية”.
ومنذ خمسينيات القرن العشرين، تعرض نزار -الذي كان يعمل ضمن السلك الدبلوماسي في سوريا- لمتاعب بسبب قصائده، بلغت حد مطالبة بعض البرلمانيين السوريين بإقصائه من وظيفته الدبلوماسية.
الشاعر الراحل محمد الفيتوري (الجزيرة) |
ولم ينتبه البعض في خضم هجومهم على نزار قباني إلى أنه أحد أهم الشعراء العرب الذين نجحوا في تطوير جماليات اللغة العربية، بقدر ما جعل الشعر عبر 35 ديوانا صديقا لرجل الشارع العربي، ومنح لحظة سعادة للمواطن البسيط الذي تطحنه هموم الحياة اليومية.
أما الشاعر المصري الراحل صالح جودت -الذي وُصف “بشاعر الرومانسيين”- فقد تسبب تصنيفه السياسي باعتباره ضمن “معسكر اليمين” -في مرحلة بدا فيها اليسار الثقافي في علو- في تعرضه لهجمات ظالمة لإبداعاته بدوافع سياسية.
وفي الكتاب الذي صدر بعنوان “قيثارة مصر.. صالح جودت”، تطرق المؤلف محمد رضوان لهذه المسألة المثيرة للأسف، في حين كان صالح جودت فقد وظيفته بالإذاعة عام 1953 مع صديقه الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي جراء مكايدات سياسية، مع أنهما أصحاب مواقف مشرقة في مواجهة الفساد والطغيان والاحتلال قبل ثورة 23 يوليو/تموز 1952.
الشاعر والكاتب صالح جودت -الذي ولد في 12 ديسمبر/كانون الأول 1912، وتوفي في 23 يونيو/حزيران 1976- تعرض حتى على مستوى شعره لهجمات حادة من بعض المنسوبين لمعسكر اليسار، والذين نظروا لإبداعه “من منظورهم السياسي الذي لا يتطابق بالضرورة مع المنظور الإبداعي”.
وكما قال الأديب والناقد الراحل كمال النجمي، فإن الخصومة السياسية حالت دون أن ينال صالح جودت ما يستحقه “كشاعر ذي شاعرية حقة من دراسة وتكريم لشعره، مع أنه لم يكن مغمورا من بداية حياته الشعرية إلى نهايتها”.
وأوضح النجمي أن صالح جودت كان بين سنوات الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين “يمينيا بالمعنى السياسي المتداول الآن، وكان النقد أقرب إلى اليسار، وبعضه كان يساريا بحتا، وغلب عليه هذا الاتجاه، واستعر العداء بين من يقف هناك ومن يقف هنا من حملة الأقلام”.
وكما ورد في كتاب “قيثارة مصر” لمحمد رضوان، فإن التجاهل من بين الأساليب التي اتبعها النقاد المتغلبون على الصحف في تلك الفترة؛ فتجاهلوا -على سبيل المثال- شعراء وأدباء كانوا يستحقون الدراسة مثل علي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار وعبد الحليم عبد الله وغيرهم.
وهكذا لم يجد صالح جودت في القليل الذي كتبوه عنه إلا كلمات صحفية، وهي في الحقيقة نوع من “الشجار والنقار وغمز لمواقفه الفكرية وللجوهر الفني لشاعريته وشعره”. في حين يؤكد محمد رضوان في كتابه أن بعض أصحاب الاتجاهات اليسارية من النقاد ظلموا صالح جودت وشعره وناصبوه العداء حتى بعد رحيله عن الحياة الدنيا.
إذا كانت الروائية الأميركية النوبلية توني موريسون رأت أن “السياسة كامنة في كل النصوص الأدبية شئنا أم أبينا”، فإنها لم تكن قادرة على الإجابة القاطعة والواضحة بشأن تناقضات المبدعين أحيانا بين أقوالهم وأفعالهم أو بين ممارساتهم في الواقع وسمو إبداعهم |
الهوى السياسي
وإذا كان صالح جودت -صاحب دواوين “ليالي الهرم” و”أغنيات على النيل” و”حكاية قلب” و”ألحان مصرية” و”الله والنيل والحب”، فضلا عن الديوان الأول الذي حمل اسمه- جمع بين الثقافتين العربية والأوروبية؛ فهو في نظر بعض من تصدوا للنقد بمنظور الهوى السياسي “ضعيف ثقافيا وشعريا”. غير أن محمد رضوان يقول في كتابه “قيثارة مصر”: سيبقى صالح جودت “علامة مضيئة مشرقة في تاريخ أدبنا العربي رغم أنف الحاقدين الذين يحاولون إسدال ستائر النسيان على اسمه وتراثه الأدبي الخالد”.
وفي المقابل، فإن قامة شعرية أخرى تصنف سياسيا ضمن معسكر اليسار، وهو الشاعر الراحل محمد الفيتوري -الذي توفي في 24 أبريل/نيسان 2015- لم تحل مكانته الخالدة في ديوان الشعر العربي المعاصر وريادته الشعرية المجددة دون تعرضه لهجمات مدفوعة بدوافع سياسية.
والفيتوري -الذي يجمع بين دماء سودانية وليبية ومصرية- كان أفضل تعبيرا في تكوينه ومسيرته في الحياة والإبداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافي العربي، في حين أنه صُنف سياسيا باعتباره في معسكر اليسار، وهو صاحب دواوين وروائع في الشعر مثل “أغاني أفريقيا و”عاشق من أفريقيا” و”اذكريني يا أفريقيا” و”معزوفة لدرويش متجول” و”شرق الشمس غرب القمر” و”قوس الليل قوس النهار” و”عريانا يرقص في الشمس”.
وإذا كانت الروائية الأميركية النوبلية توني موريسون -التي تجاوز عمرها 87 عاما- رأت أن “السياسة كامنة في كل النصوص الأدبية شئنا أم أبينا”؛ فإنها لم تكن قادرة على الإجابة القاطعة والواضحة بشأن تناقضات المبدعين أحيانا بين أقوالهم وأفعالهم، أو بين ممارساتهم في الواقع وسمو إبداعهم. ويبدو أن هذا السؤال الكبير والمعقد والمركب سيبقى دوما كجرح غائر في جسد الإبداع.
المصدر : وكالة الشرق الأوسط