ساعات تفصل سكان الخان الأحمر عن مصير مجهول
|أسيل جندي-الخان الأحمر
مع بزوغ فجر هذا اليوم الاثنين الذي تنتهي به المهلة التي حددتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لسكان الخان الأحمر شرق القدس المحتلة لإخلاء مساكنهم قبل أن تهدمها، بدت الأجواء هادئة في التجمع البدوي الذي أغلق الاحتلال مدخله الرئيسي بالمكعبات الإسمنتية وصعّب إمكانية الوصول إليه.
وبمجرد الدخول إلى تجمع “أبو داهوك” المهدد بالهدم والترحيل، يرى الزائر منزل محمد أبو داهوك على يمينه، ومضافة رجال التجمع على يساره وبداخلها عدد من الرجال المرابطين فيها على مدار الساعة تحسبا لأي اقتحام مباغت.
الأعلام الفلسطينية ترفرف في تجمع الخان الأحمر (الجزيرة) |
يكمل الزائر سيره في عمق التجمع لتستقبله عشرات الأعلام الفلسطينية التي ثُبتت قبل ثلاثة أشهر مع انطلاق التضامن مع الخان الأحمر، بالإضافة إلى سيارات البث التابعة لوسائل إعلام مختلفة ثم خيمة التضامن التي ضمت نحو ثلاثين متضامنا فلسطينيا وأجنبيا منهم من استيقظ باكرا وتطوع بترتيب الفراش، ومنهم من غلبه النوم بعد ليلة طويلة من الهدوء الحذر.
وخلال جولة للجزيرة نت في التجمع المهدد بالهدم حاولنا ملامسة هموم سكانه في الساعات الأخيرة التي يقضونها فيه، وسبر أغوار مشاعرهم تجاهه، التي تحاول الإناث خاصة تجنب الحديث عنها.
محمد أبو داهوك (50 عاما) -صاحب أقرب المنازل إلى مدخل التجمع- بدا هادئا خلال حديثه معنا، لكنه كان ينفعل بمجرد التطرق إلى البدائل التي تطرحها سلطات الاحتلال عليهم فور إخلاء الخان الأحمر.
محمد أبو داهوك: سندافع عن أرضنا بصدورنا العارية (الجزيرة) |
خياران أحلاهما مر
“رغم قسوة حياتنا كنا نعيش مرتاحي البال.. أربعة أجيال ولدت وعاشت في التجمع: والدي وأنا وأبنائي وأحفادي، كيف نتنازل عن هذه الأرض؟ يريدون ترحيلنا إلى منطقة العيزرية بجوار مكب للنفايات أو إلى منطقة النبي موسى بجوار سيول من مياه الصرف الصحي.. ونحن نقول هذه أرض عربية سندافع عنها بصدورنا العارية لمواجهة قرار ترحيلنا قسرا” يقول أبو داهوك.
أثناء حديثه للجزيرة نت في مضافة الرجال المقابلة لمنزله، كانت تطل من خلف ستار أبيض أُغلق به مدخل المنزل؛ ابنتُه أسماء التي رفضت إجراء مقابلة معها في البداية، لكنها تحمست لاحقا واصطحبتنا في جولة إلى حظيرة الأغنام التي تملكها أسرتها، وهناك لاحظنا تعلقها بالمكان ومدى إتقانها للعمل فيه.
أسماء ذات الاثني عشر ربيعا فضلت أن نطلق عليها اسم “الراعية الصغيرة”، وعند سؤالها عن أكثر ما تحبه في التجمع نظرت إلى الفضاء المفتوح من حولها وأجابت “الجبال.. لأنني أتوجه إليها يوميا لأرعى الأغنام، لكنني أعرف الحدود المسموح لي بالوصول إليها، وإن اجتزتها باقترابي من المستوطنات المجاورة سأتعرض للأذى وأغنامي للمصادرة”.
أسماء أبو داهوك تطعم المواشي في الحظيرة الخاصة بأسرتها (الجزيرة) |
سبقتنا إلى حظيرة الأغنام، وعند تحذيرنا لها بضرورة الانتباه للأسلاك الشائكة والأخشاب على مدخلها قالت “نحن بدو لا نخشى شيئا.. إذا اقتحموا التجمع لإجلائنا سأبقى في مكاني ولن أتحرك.. ما يقلقني فقط أشقائي الأصغر الذين يستيقظون مرارا كل ليلة ويبكون خوفا من اقتحام الجيش”.
نظرت إلى الأغنام من حولها وبخبرة عالية قالت إن شقيقاتها لم يحلبن الأغنام بعد، ويبدو ذلك واضحا من الشكل الخارجي، وسارعت إلى جلب دلو معدني، وبمهارة عالية وضعت إحدى قدمي العنزة أسفل رجلها اليمنى وبدأت بحلبها.
خيمة التضامن مع سكان الخان الأحمر (الجزيرة) |
طفولة.. شباب وكهولة
مع هذا المشهد ودّعناها وتوجهنا إلى منزل أحمد أبو داهوك (60 عاما) وهو أكبر رجال التجمع سنا، وبدا منفعلا أكثر من غيره.. تبادلنا معه أطراف الحديث عن ذكريات طفولته وقال إنه قضاها يرعى 250 رأسا من الماشية وصل بها -قبل بناء مستوطنة كفار أدوميم المجاورة- إلى وادي القلط حيث تتوفر المياه والأعشاب على مدار العام، وإلى بئر الخان الذي كان وجهة له ولرفاقه الرعاة.
“بعد بناء المستوطنات وإغلاق سوق القدس أمامنا، بدأنا تدريجيا تقليص أعداد المواشي وبقي منها الآن مئة فقط، وخوفا عليها من المصادرة المفاجئة أرسلتها مع بعض أبنائي إلى تجمع بدوي مجاور ليرعوها هناك، فهي رأسمالي الوحيد”.
يصف المسن البدوي حياتهم بالسجن بعد بناء المستوطنات من حولهم ومنعهم من التجول بمواشيهم، لكنه يصف البدائل المطروحة عليهم بالزنازين، إذ لا يمكن لبدوي أن يعيش في شقة سكنية مغلقة أو مكان محصور يحد من إمكانية تربية المواشي ورعيها.
أحمد أبو داهوك أكبر رجال التجمع سنا (الجزيرة) |
تجلس بجواره زوجته أم محمد التي أكدت أن أعصابها تلِفَت منذ ثلاثة أشهر، وأنها لم تعد تحتمل العيش في هذا الوضع النفسي الصعب.. تقوا إن “صوت محركات السيارات في الليل بات يقض مضجعي.. لم أخْلِ المنزل من محتوياته لأنني لا أؤمن بفكرة رحيلي عنه.. الشيء الوحيد الذي حضّرته لاقتحام التجمع وترحيلنا هو تعبئة عدة قوارير من المياه لاستخدامها لشرب أطفالي إذا ما استنشقوا الغاز” المدمع.
تتبادل نظرات القلق مع زوجها فيمازحها قائلا “لا تخشيْ.. ستزول هذه الغمة بإذن الله، وسنسافر إلى تركيا ونعود من هناك إلى التجمع مرة أخرى”.
مجموعة من الأطفال يقضون وقتهم في اللهو بألعاب تبرع بها المتضامنون (الجزيرة) |
غير بعيد عن منزلهما، التقينا بالفتاة نسرين أبو داهوك (15 عاما) وبدت أكثر من قابلناهم قلقا، وشعرت أنها تفرغ مشاعرها السلبية بالحديث معنا، وقالت “منذ نزع حجاب سارة أبو داهوك وسحلها واعتقالها أعيش في حالة رعب وخوف.. لا أتقبل فكرة ترحيلي من هنا لأنني أعشق حياة البداوة بتفاصيلها.. وأصعب شيء في أيامنا الحالية هو الانتظار”.
وعند سؤالها عن أكثر ما تقلق عليه في التجمع إذا تم اقتحامه والشروع في ترحيلهم، قالت “بالتأكيد سألتفت حولي لأتفقد أسرتي، لكنني سأسارع إلى تجميع أغنامي لأحميها من أي أذى محتمل، وسأغادر معها دفيئتنا قسرا”.
المصدر : الجزيرة