مكتبة “العُمري” في غزة.. منارة صمدت بوجه الاحتلال
|أيمن الجرجاوي-غزة
في ليلة حالكة قبل خمسين عاما اقتاد جنود إسرائيليون الشيخ جميل الريس من منزله عنوة إلى مكتبة المسجد العمري الكبير منارة الحي الأثري وسط مدينة غزة، وأجبروه على إخراج ثلاث مخطوطات قديمة منها، ومنذ سطوهم عليها وقتها لم تر حتى اليوم.
كان جنود الاحتلال في تلك الليلة يستلهمون خطاهم الآثمة من كولونيل بريطاني سبقهم بخمسين عاما، ففي عام وعد بلفور سرق ذلك العسكري المحتل مصحفا من المكتبة نفسها كان كتبه الشيخ أحمد شعشاعة العلمي الغزي سنة 1271 هـ (1854 م)، لكنه أعاده بعد ثلاثين عاما فاقدا بعض أوراقه وسمي “المصحف الأسير”.
انقضاض المحتلين على كنوز المكتبة التي أسسها الظاهر بيبرس البندقداري قبل أكثر من سبعة قرون (676 هـ/1277 م) وأرفدها بنحو عشرين ألف كتاب لم يكن من فراغ، فعراقتها تضاهي مكتبتي المسجد الأقصى في القدس المحتلة، وأحمد باشا الجزار بعكا، وأقدم من المكتبة الوطنية الفرنسية ومكتبة برلين.
المكتبة ركن أساس من الجامع العمري الكبير المسجد الأكبر والأقدم في غزة بمساحة 4100 متر مربع الذي له حكاية ضاربة في التاريخ، إذ كان معبدا وثنيا ثم كنيسة، وبعد الفتح الإسلامي حوّل إلى مسجد بالقرن السابع، لكن بعد ذلك تعاقب على احتلاله الصليبيون والمغول وضربه زلزالان، آخرهما نهاية القرن الـ13.
ثم أعاد العثمانيون بناء المسجد بعد ثلاثمئة سنة من الزلزال، كما تعرض لأضرار جراء قصف بريطاني في الحرب العالمية الأولى قبل ترميمه سنة 1925، وخلال السنوات الماضية رمم أكثر من مرة، آخرها عام 2016 بتمويل دولة قطر.
تخريب وإحياء
منذ تأسيس المكتبة التي تحتضنها غرفتان صغيرتان تزيد مساحتهما على خمسين مترا بقليل بقيت عامرة بالعلوم المختلفة، وتغذى من الوقف والصدقات، لكن مع شن الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798 هـ/1801 م) شهدت انتكاسة كبرى وتشتتت كنوزها بين مكتبات القاهرة وباريس وبرلين.
ولأكثر من عقد بعد الحملة الفرنسية لم يضف إلى المكتبة كتاب وعانت من الإهمال والنهب حتى جاء الشيخ عثمان الطباع أواخر عشرينيات القرن الماضي فجمع شتاتها بعد تواصله مع المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في القدس بمساعدة جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
استنهض الطباع طاقات علماء جنوب فلسطين، فأحيا المكتبة بنحو خمسة آلاف كتاب، وفق ما وثقه المؤرخ الفلسطيني عبد اللطيف أبو هاشم، فعاشت فترة زاهية.
بعد وفاة الشيخ الطباع عام 1950 تعهدها الشيخ جميل الريس، فسار على درب سابقه، لكن بعد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع سنة 1967 وحتى أوائل تسعينيات القرن الماضي عاد العنكبوت لينسج خيوطه على كتبها.
ويجزم مدير دائرة المخطوطات والمكتبات والآثار في وزارة الأوقاف المؤرخ أبو هاشم في حديثه للجزيرة نت بأن الغزاة تعمدوا تشتيت المكتبة وإهمالها “فهم يقرؤون تاريخنا ويعرفونه أكثر منا، فسرقوا بعضا من كنوزها وشتتوا الأخرى”.
كنوز ثمينة
رغم النكبات التي حلت بالمكتبة ما زالت على عهدها، إذ تكتنز بين جدرانها العريقة اليوم 187 مخطوطة يشهد ورقها الأصفر ورسمها على قدمها، وهي من بين ستة آلاف كتاب يقصدها بعض باحثي الدراسات العليا اليوم.
وتستحوذ العلوم الشرعية على نحو نصف كتبها، غير أنها مصنفة وفق خطة “ديوي” العشرية، وتضم المعارف والفلسفة والديانات والعلوم الاجتماعية واللغة والعلوم الطبيعية والعلوم التطبيقية والفنون والأدب العربي والآداب الأخرى والجغرافيا والتراجم والتاريخ الإسلامي.
وتفتخر المكتبة باحتضان مخطوطة “شرح الغوامض في علم الفرائض” لبدر الدين المرديني المنسوخة قبل نحو خمسمئة عام (920 هـ)، وديوان “ابن زقاعة” الغزي المنسوخ بتاريخ 1150 هـ والذي يعكس وجه التراث العربي الإسلامي في غزة، كما تضم “الفتاوى الخيرية” لخير الدين الرملي، و”المصحف الأسير”.
ولعل أكثر ما تمتاز به -وفق المؤرخ أبو هاشم- الطبعات القديمة المطبوعة في مطابع بولاق والوهبية والجمالية ودار الكتب المصرية، لكنها في الوقت نفسه لم تغفل الحاضر.
تحديات الحاضر
كان للمؤرخ الفلسطيني -الذي له عشرات الكتب والأبحاث، أبرزها كتاب “فهرسة مخطوطات مكتبة المسجد العمري”- إسهام ملحوظ في المحافظة على المكتبة وإثرائها، وأشرف على ترميم نحو 1400 كتاب وتجليدها، وزود المكتبة بنحو ثلاثة آلاف كتاب بين عامي 1994 و1998، ومنذ ذلك الحين لم تشتر المكتبة كتابا، واقتصرت الزيادات على الإهداءات.
وتأثرت المكتبة بالأوضاع الفلسطينية المتردية فزاد الاهتمام بالسياسة والمعيشة وقل الاهتمام بالمعارف فأصبحت المخطوطات يرثى لها، وضربت بعضها الأرضة والرطوبة، ولأجل المحافظة عليها وضمان الاستفادة الأكبر نقلت مخطوطات المكتبة إلى دائرة متخصصة أنشأتها الأوقاف.
في هذه الفترة تستعد المكتبة لمشروع إحيائي لمخطوطاتها، إذ سيتم ترميمها وحوسبتها ورفعها على موقع إنترنت، ومن المقرر بدؤه في ديسمبر/كانون الأول المقبل وينتهي المشروع بعد ستة أشهر.
لكن المؤرخ أبو هاشم يتحدث عن ضرورة رفد المكتبة بموظفين، ودعمها بأجهزة إلكترونية، ويقف الحصار الإسرائيلي المستمر للقطاع منذ 12 عاما وما خلفه من أوضاع حجر عثرة أمام تنفيذ مبادرات تطوير المكتبة وتحويلها إلى متحف.
قرب المكتبة من السوق ومساحتها الصغيرة أثرا على ارتيادها، إذ يؤمها نحو مئتي شخص فقط شهريا، ويرجع ذلك -وفق حديث أمينها محمد شحادة للجزيرة نت- إلى انشغال الناس بالأوضاع المعيشية، وساعات عملها المحدودة.
ويقضي شحادة -الذي يعد واحدا من موظفين اثنين فقط بالمكتبة- وقته في أرشفة كتبها إلكترونيا، ولا سيما بعد تجديدها جزئيا، وإضافة بعض الرفوف والخزانات.
حاول الاحتلال الإسرائيلي إطفاء شعلة المكتبة، لكن عودها كان أشد وجذوتها أقوى، فصمدت حتى أوصلت التاريخ وعلومه إلينا، وهي بحاجة لمن يتلقف معارفها ويثريها ويرد لها الجميل.
المصدر : الجزيرة