الصابون النابلسي.. صناعة تحفظ “ريحة البلد”
|عاطف دغلس-نابلس
بعصا خشبية طويلة بدأ غريب يحرك خلطته المعهودة من زيت الزيتون والماء، يضيف إليها الملح والصودا الكاوية أو “الأطرونة” كما تسمى ثم يتابع التحريك، فأي ركود لخلطة الصابون قد يفسدها ويكلفه ما لا يطيق من خسائر مادية.
في الحي الغربي من قرية برقة شمالي نابلس بالضفة الغربية يقضي غريب سيف (49 عاما) عامه الـ22 في صناعة الصابون البلدي (النابلسي) محافظا بذلك على تقليد تلاشى أمام الصناعات المماثلة والحديثة.
في صغره كان غريب يُعرف عند والدته وجاراتها القواعد من النساء بأن يده “عِدلة” (متزنة)، وكن يستدعينه عند طبخ (صناعة) الصابون ليقسمه لقطع صغيرة مكعبة الشكل تصلح للاستحمام وتنظيف البشرة.
شيئا فشيئا باتت الصنعة مصدر رزق لغريب لا ينقطع عنه في أيسر الظروف وأحلكها، وابتدع عمله وطوّره بعدما ضاقت به السُبل بإيجاد عمل آخر في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة لنحو 28% بين صفوف الفلسطينيين.
ويعتقد غريب أن أي وظيفة ربما لن تدر عليه دخلا مثلما تدر عليه صناعة الصابون التي يصل مردودها المالي لنحو 700 دولار شهريا، لهذا يَعضُّ غريب على مهنته التقليدية بنواجذه، وباتت سر تميزه بقريته ومحيطها.
لا ينشغل غريب عن تحريك الصابون بأي شيء آخر كي لا يفسد (الجزيرة نت) |
وعند مدخل غرفة صغيرة أسفل منزله حولها غريب لمعمل صابون، ينصب موقدين للنار يضع فوقهما إناءين مجوفين، يتسع أحدهما لغالون من الزيت (16 كيلوغراما) وهو الحجم المعهود، والآخر لثلاثة غالونات يستخدم للكميات الضخمة.
في اليوم التالي لسكب الزيت وخلطه بالمكونات الرئيسية وتحريكه جيدا، يستيقظ غريب باكرا لتنفيذ أصعب مهمة، حيث يشعل الموقد مستخدما حطب الزيتون الذي يطول احتراقه ويعاود التحريك مجددا دونما انقطاع لنحو ساعة من الزمن، لا يشغله حديث جانبي أو اتصال هاتفي.
طبخة الصابون
ويظل الحال كذلك حتى تبدأ مادة الصابون بالطفو عاليا فوق المياه المتأكسدة بفعل الغليان المعروفة بـ”ماء الخمير” ويستعمل للتنظيف وكنكهة مميزة لتخليل حب الزيتون.
لا يلبث غريب كثيرا حتى يسكب “طبخة الصابون” في قالب خشبي ثم يصقلها جيدا لتصبح ملساء ثم يقسمها ويتركها تجف في مصنعه الصغير الذي تتنوع به القوالب وتختلف المقاسات، لكن “الختيارية” (كبار السن) يفضلون قطع الصابون الكبيرة.
رغم أكثر من عقدين من عمله المستمر ذاع صيت غريب أكثر في السنوات القليلة الماضية، حينما تجاوز طبخ الصابون وتسويقه على أهالي قريته إلى بيعه في القرى والمدن المجاورة وكذا المؤسسات التجارية.
وزيادة في الإبداع طوَّر الرجل في صنعته وجعل منها صابونا سائلا، وأضاف لمن يريد من الزبائن خلطات من الأعشاب والروائح الزكية لتغدو مقاربة للصابون الحديث “أما أنا فبقيت محافظا على استعمال زيت الزيتون الصافي، وهذا ما يميزني” يقول غريب، ويساعده في ذلك -كما يضيف- إنتاج قريته لكميات كبيرة من الزيت سنويا وتفضيل الناس لصابونه واعتيادهم عليهم.
تتساوى قطع الصابون بالشكل والحجم بعد تقطيعها (الجزيرة نت) |
وهناك نوعان من الصابون البلدي لا يختلفان من حيث المحتويات، لكن أحدهما لا يغلى بالنار، ويعرف بالصابون البارد والآخر المغلي يعرف بالحامي، يجيد غريب صنع كليهما، لكنه يفضل النوع الثاني في صنعته، فهو أكثر فائدة، “لأن غليانه أدى لتنقية الصابون من الشوائب وسرعة فصله عن المياه المخمرة (الكاوية)”.
يحاول “صانع الصابون” كما بات يعرف في قريته الوصول بمنتجه للعالمية، سرَّه أن بضاعته تلقى رواجا لدى الزوار الأجانب، وهو لا يخفي سعيه لتطوير صناعته ومضاعفة كمياتها عبر اكتساب مزيد من الخبرات.
وقد طرق أبواب مؤسسات داعمة، لكنه رفض محاولات “تغوُّلها” واشتراطاتها لاحتكار المنتج، وهو ما جعله يفكر بعمل شعار تجاري خاص بصابونه.
رغم هذا يتحمل غريب جانبا من المسؤولية الاجتماعية تجاه قريته، وهو لا يُخيِّب أحدا قصده لاستعارة إناء طبخ الصابون أو قوالب السكب لطبخه بمنازلهم، فتلك الآنية والأدوات لم يعد يملكها كثيرون في ظل تلاشي الصنعة، ولم تعد بالشكل الذي تذكره نساء القرية ممن يقطن قرب غريب أو بأحياء أخرى.
وهن يرقبنه في عمله، تستذكر تلك العجائز حكاياهن خلال صنع الصابون، فعادة تشتد أزمة طبخه قبيل موسم حصاد الزيتون، حيث يلجأ الناس للتخلص من الزيت القديم بتحويله صابونا، ويعد هذا أجود وأفضل ولا سيما أن الشوائب قد ترسبت منه.
تقول الحاجة سامية محمود (80 عاما) إن “طبخ الصابون” عادة يكون جماعيا ومرة واحدة خلال العام، وتضيف أنها وجاراتها كن يلتقين سويا ويتساعدن في طبخ وسكب الصابون ثم تقطيعه وتخزينه بعبوات من الكرتون أو أكياس من الخيش ليبقى بحال جيدة.
ست قطع من الصابون تزن كيلوغراما واحدا، يبيعها غريب بنحو سبعة دولارات أميركية بعد أن يكون قد غلفها جيدا وبطريقة جذابة تجعل من “ريحة البلد” هدية جيدة للمغتربين من أبناء القرية وسكانها أيضا.
المصدر : الجزيرة