في عين دراهم التونسية.. أكواخ تتدثر بالفقر والصقيع

بدرالدين الوهيبي-عين دراهم (تونس)

منكفئة على موقد حطب مشتعل، تحرك الخالة صالحة بيديها المتجمدتين من البرد ما تبقى من جذوات نار بدأت تخبو، لا تهاب لسعات النار ولا الدخان الخانق الذي عمّ الكوخ فكتم الأنفاس وأدمع الأعين. هنا في عين دراهم التونسية، حيث يتزاوج جمال الطبيعة الساحر وفقر مدقع وصقيع قاتل.

عين دراهم من محافظة جندوبة (شمال غربي تونس)، أو سوق القمح كما كان يسميها البرابرة لسهولها الغنية، رئة البلاد التي تتنفس منها عبر ثروة غابية فريدة من نوعها في شمال أفريقيا، إضافة إلى المياه الجوفية الساخنة والسدود الكبرى، ومواقع أثرية ضاربة في التاريخ.

هي من المدن التونسية التي لم يدّخر الفرنسيون شيئا من ترسانتهم العسكرية للسيطرة عليها في الحقبة الاستعمارية؛ نظرا للثروات الطبيعية التي ترقد عليها، لكن عجلة التنمية ترفض -منذ الاستقلال- الدوران، وتتعثر في كثير من الأحيان، لتغيب الحياة الكريمة عن فئة كبيرة من أهلها.

أكواخ متهالكة
داخل كوخ متهالك وسط الغابة، يشترك برحابة صدر حمار وكلب ودجاج وقطط، السكن مع عائلة متكونة من سبعة أفراد، سقف من الطين والحطب المتهالك تحت الأمطار يضم الجميع على حدّ سواء، هنا لا وجود لمفردات الآدمية والحيوانية؛ فالهدف هو البقاء على قيد الحياة.

صالحة وعائلتها داخل الكوخ أمام موقد النار (الجزيرة)

تتوسط الكوخ من الداخل كومة من الحطب المشتعل، تحيط بها جذوع أشجار اتّخذت للجلوس، وفي الركن معدات مكدّسة على ما يشبه الرفّ توحي بما يشبه مطبخ لا يطبخ فيه شيء لقلة ذات اليد، والحيوانات تعم المكان هربا من الصقيع في الخارج لتشاركهم دفء الموقد.  

وعاينت الجزيرة نت ما تخفيه عروس الشمال -كما تسمى محليا- تحت ردائها الجميل المرصّع بالجبال والغابات الفريدة من خصاصة وفقر، هنا حيث يعزّ الدرهم على أهالي عين الدراهم ومنبعها إبّان الاستعمار الفرنسي.

شتاء قاس
كواجب للضيافة، لم تجد الخالة صالحة غير الخبز هدية، تقول إن الأمطار تعزل المنطقة وتقطع الطريق الوحيدة المؤدية من وإلى قرية “الرويعي”، لذلك تفتقد مؤونة الطعام فتتدبر أمرها حسب الظروف.

الطريق الموصلة إلى القرية القابعة على مرمى حجر من الحدود التونسية الجزائرية -والممتدة إلى قرية حمام بورقيبة- في غالبيتها غير ممّهدة أو معبّدة، تقطعها سيول الأمطار المنحدرة من الجبال لتكوّن وديانا موسميّة خطرة في أكثر من نقطة تحتجز أهالي المنطقة كرهائن للطبيعة.

أطفال في طريقهم إلى المدرسة في ممر غابي وعر جراء الوحل (الجزيرة)

وكما الطريق المقطوعة، تتحدث هذه المرأة المسنّة عن تقطّع السبل بها وبعائلتها، حيث تعيش يومها على الهواجس مخافة البرد والجوع، وتخشى تلبّد الغيوم وطرقات المطر على السقف المرهق للكوخ، وتخشى ألا يقوى الحمار على حمل أحدهم، إذا مرض ليلا لا قدّر الله.

كمّ هائل من الألم ضجّت به تجاعيد وجهها وهي على عتبات عقدها الثامن، تعجز حتى عن صياغته، لتضيف أنها تألم لرؤية أحفادها بهذه الأسمال البالية، ورؤيتهم مرتجفين من البرد، ويتنافسون على اقتسام اللقمة والغطاء ليلا، ويتسابقون أيضا إلى ركن لا تتسرب منه الأمطار ليناموا.

تقول -وهم يقتربون من الموقد- إنهم رغم قساوة الظروف متميزون في الدراسة، ونتائجهم مدعاة فخر.

المدرسة تبعد عن الكوخ والمنطقة نحو أربعة كيلومترات على حدّ قولها، ويقطعها ذهابا وإيابا أطفال القرية مشيا على الأقدام، وعندما تشتد الأمطار والثلوج يلزمون الأكواخ والبيوت مكرهين، كحال أحفادها اليوم، نظرا لاستحالة أن تواجه أجسادهم الغضة الطبيعة.

انعدام الموارد
لمواجهة موجة البرد والأمطار، تعتمد هذه المرأة على موردين أساسيين لا تستغني عنهما: جمع الحطب من الغابة للتدفئة والطبخ، وعلى الجراية التي تصرفها الدولة لزوجها، وتقدّر بنحو خمسين دولارا شهريا، وهو مبلغ زهيد جدا لا يكفي لتوفير طعام أسرتها وسد احتياجات الأطفال.

مدخل الكوخ الذي تسكنه صالحة وعائلتها (الجزيرة)

وفي ما يخص الكوخ، فإن زوجها يتعهد دائما بصيانته صيفا تحسبا لموسم المطر والثلوج، إذ يعمد -حسب قوله- إلى تجديد الدعائم الأفقية، عبر خلط الطين بالقش ليجعله متماسكا ثم تكديسه فوق الكوخ ليكون سقفا، كما تمكن هذه السنة من إضافة لفافة بلاستيك للتخفيف من تسرب مياه الأمطار.

جلب مياه الشرب أيضا رحلة كفاح يومية، إذ تبعد البئر مسافة تقارب كيلومترين أو أكثر، وتعتمد صالحة مثلها مثل نساء القرية على الحمير لجلب حاجاتهن من الماء الصالح نسبيا للشراب والطبخ، وهي رحلة خطيرة أحيانا في الشتاء نظرا للحالة السيئة للطرق المسلوكة.

يقول المسؤول المالي “بجمعية الخير” بعين دراهم البشير العرفاوي إن هذه العائلة نسخة مطابقة لمئات على شاكلتها في العديد من القرى، ولكن رغم عدم توفر الإمكانيات فإن مواسم المطر والثلوج تحرّك أصحاب القلوب الرحيمة لمد يد المساعدة لهذه الفئة المعدومة من الأهالي.

بيت قديم في عين دراهم يعود لحقبة الاستعمار الفرنسي (الجزيرة)

وعلى امتداد أكثر من ستين سنة مضت منذ استقلال تونس والأكواخ في غابات عين دراهم تلازم مكانها كمعادلة صعبة عجز عن حلها المتعاقبون على السلطة.

ورغم الكمّ الهائل من الثروات التي حبت بها الطبيعة هذه المنطقة، تنتظر صالحة وأحفادها قرارات حاسمة وسريعة من السلطات تحملهم من عتمة الأكواخ إلى نور البيوت الآدمية.    

المصدر : الجزيرة

كلمات مفتاحية:

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *